كيف واجهت الجهات الرسمية أزمة السكن الناجمة عن إنفجار مرفأ بيروت؟

دراسات وتوصيات

بحث وكتابة: مايا سبع أعين

بعد ساعات من إنفجار المرفأ الذي نكب مدينة بيروت، أطّل محافظ بيروت القاضي مروان عبّود على شاشات التلفاز، والدّمع في عينيه، ليصرّح أنّ حوالي 300 ألف شخص باتوا مشردين في العاصمة اللبنانية. على وطئ هذا الخبر تهافت الأفراد والمنظمات والجمعيات لفتح بيوتهم ومقرّاتهم لاستقبال المتضررين. أمّا الجهات المعنية، فلم تبدي أي عجلة للتحرك، بل بدى وكأنها اتكلت بشكل شبه كامل على مبادرات المتطوعين و النّاجين. فهل صدق كاتب مجلة «ذي إكونوميست» عندما قال «الدولة تركت المواطنين يسعفون أنفسهم بأنفسهم»1، أم أنّ للدولة دور لم ينقله الإعلام؟
أردنا في هذا المقال إلقاء الضوء على أبرز القرارات التي صدرت عن الجهات الرسمية خلال الأسابيع الأولى بعد الإنفجار، والتعليق على مدى فعاليّتها في مؤازرة أزمة السكن المستجدّة.

1. لجهة إعلان حالة الطوارئ (و تسليم الجيش مهمّة إدارة الأزمة)

 في 5 آب 2020، اليوم الذي يلي الإنفجار، إجتمع مجلس الوزراء في جلسة استثنائية2، أعلن على عقبها حالة الطوارئ الجزئية في مدينة بيروت، وتسليم  الصلاحيات إلى الجيش. واجتمع مجلس النواب بهيئته العامّة بتاريخ 13 آب 2020 ليصدّق على مرسوم إعلان حالة الطوارئ. 
لن ندخل في الملابسات القانونيّة التي حوّطت إعلان حالة الطوارئ وإقراره، إنّما يهمّنا التعليق على مدى ضرورة إتخاذ هذا القرار:
لم يكن هناك حاجة لإعلان حالة الطوارئ بوجود حالة التعبئة العامة المعلنة حتّى 30 آب 2020، والتي بموجبها تُمنح الحكومة صلاحيات إستثنائية تخوّلها تجنيد كافة موارد الدولة، ومصادرة ما تحتاجه من الأملاك الخاصّة، لمعالجة تداعيات إنفجار المرفأ. على المثال، تخصيص المباني الفارغة لإيواء المنكوبين.
لا مبرر للجوء إلى عسكرة السلطة وإعلان المنطقة العسكرية في غياب خطر أمني يهدد البلاد. فطبيعة الكارثة لا تتطلّب تشدّد في الأمن وتقييد للحريات، وتداعياتها تتجاوز البعد الأمني لتحمل الطابع الإجتماعي والإقتصادي، والإنمائي والسكني، مما يستوجب توحيد الجهود بين مختلف الجهات المختصّة لمواكبة جميع تلك جوانب. 
وبالرغم من إطلاق قيادة الجيش – مديرية التوجيه «غرفة طوارئ متقدمة»3 وتعاونها مع مختلف الجهات الرسميّة كبلدية بيروت والدفاع المدني والهيئة العليا للإغاثة ووزارات الشؤون الإجتماعية، الإتصالات، الطاقة والأشغال العامّة4، لم يستطع الجيش تأمين المساعدة بما يتناسب مع متطلبات الأزمة، واتّكل بمعظم الوقت على مساعدة المنظمات والجمعيات غير الحكومية، والمبادرات الفردية والدولية.
 لذا كان من الأجدى أن تبقى إدارة الأزمة بيد الحكومة التي يمكنها توزيع المهام على وزاراتها، كلٍ حسب إختصاصه، بدلاً من إلقاء تلك المسؤولية على الجيش. ونتساءل هنا إن لم يحن الوقت لتشكيل وزارة خاصة للتخطيط المدني والإسكان ترسي رؤية جادة لكيفية استخدام الأراضي كمصدر للعيش تلبّي حاجات الناس في السكن والمساحات المشتركة والمرافق الحيوية، وتكبح النزعة القاتلة في تحويل الأرض إلى سلعة تستثمر على حساب حقوق الناس في بيئة حاضنة وسليمة. 

2. لجهة مسح الأضرار و تأمين السكن البديل

في اليوم الذي يلي الإنفجار، توجّهت جميع المسؤولين إلى المناطق المنكوبة لتفقد الأضرار، وسرعان ما بدأت المساعدات الخارجيّة بالتدفّق حتّى بادروا إلى تكليف جهات تنظّم مسح وتقييم الأضرار. أمّا البشر فلم يحظوا على نفس الإهتمام، ولم يتهافت المسؤولين لتفقد أوضاعهم وإجلاء المنكوبين منهم.
 فأعلنت الهيئة العليا الإغاثة في بيان5 أنها «ستقوم مع لجنة مسح وتخمين الأضرار التابعة للجيش اللبناني بالكشف على كل الأضرار الناجمة عن الإنفجار الذي وقع في مرفأ بيروت. وطلبت من المواطنين «تنظيم إفادة بالواقع والأضرار» عبر «توثيق(ها)... عبر التصوير أو الفيديو...» وتقديمها إلى مختار المحلّة. 
ورغم تكليفها «تأمين ايواء العائلات التي لم تعد منازلها صالحة للسكن...» من قبل الحكومة في مقررات جلسة 5 آب6، لم تتمكن الهيئة العليا للإغاثة من تأمين أي سكن بديل للمتضررين، علمًا أنّ تكليفها بتلك المهمّة لم يكن واقعيًا من الأساس. فهي لا تتمتع لا بالصلاحيات ولا بالإمكانيات التي تمكنها من تأمين المباني وتخصيصها لإيواء المتضررين. وعليها بالتالي أن تراجع الوزارات المختصة او الإستعانة بمختلف الإدارات والمؤسسات العامة والخاصة من اجل ذلك.
فاكتفت بمعاونة غرفة الطوارئ المتقدمة بتنسيق عمليّة تأمين مساكن بديلة موقتة للمواطنين الذين أصيبت منازلهم بأضرار جرّاء الانفجار في مرفأ بيروت، والتي اعتمدت بشكل شبه كامل على الصليب الأحمر والمبادرات الفرديّة لتأمين تلك المساكن.
وكانت مقررات تلك الجلسة قد أوصت أيضًا بـ «...التواصل مع وزارة التربية لفتح المدارس لاستقبال هذه العائلات ومع وزير السياحة لاستعمال الفنادق لهذه الغاية او لأي غاية مرتبطة بعمليات الإغاثة.»
فصدر قرار عن وزارة التربية والتعليم العالي - المديرية العامة للتعليم المهني والتقني تاريخ 8 آب 20207، بفتح أبواب مجمّع بئر حسن الفني والتقني ومجمع الدكوانة المهني، لاستقبال العائلات المتضرّرة وتأمين مراكز إيواء مؤقتة لها.
أمّا وزير السياحة فلم يصدر أي قرار من هذا النوع، وتبيّن أنّ الفنادق التي فتحت أبوابها لإستقبال المتضررين فعلت ذلك بمبادرة فرديّة.

موازيًا، صدر عن محافظ بيروت سلسلة من القرارات كلّف فيها قيادة شرطة بيروت الإيعاز لمن يلزم لإخلاء ما يقارب ال100 مبنى تبيّن أنهم مهددون بالانهيار أو يشكلون خطراً على السلامة العامة، دون تحديد مصير السكّان المقيمين في تلك المباني، أو أعطائهم ضمانات لجهة حقهم بالعودة إلى منازلهم بعد اتمام أعمال الترميم. حتّى أنّ شرطة البلدية ألزمت المقيمين الرافضين تنفيذ قرار الإخلاء بتوقيع تنازل يعفي البلدية من مسؤوليتها عن كل ضرر ممكن أن يرتد عليهم (المقيمين) وعلى عائلاتهم نتيجة عدم الإخلاء. علمًا أنه في مثل هذه الحالات يتوجب على البلدية تأمين السكن البديل لمن لا يتوفر له، قبل المباشرة بالإخلاء.
جاء القرار الأوّل عقب «إجراء عمليات المسح الميداني والعلمي للمباني التي تضررت جرّاء الانفجار الذي حصل في منطقة المرفأ... » تاريخ 10 آب 20208i، والغريب أنّ القرار لم يحدد الجهة الّتي قامت بالمسح، وصُدف صدوره بعد يومين من توجيه نقابة مالكي العقارات والأبنية المؤجّرة نداءً إلى محافظ ​بيروت بوجوب إخلاء بعض المباني «المهدّدة بالإنهيار أصلاً... في منطقة ​الأشرفية».​9
وصدر القرار الثاني بعد الكشف الذي أجرته الدائرة الفنية في مصلحة الهندسة تاريخ 12 آب 202010، وتناول مباني سبق وطلب إخلاءها في القرار الأوّل. مما يدفعنا إلى التساؤل عن مدى التنسيق بين الجهات التي تهتم بمسح الأضرار، علمًا أنّ نقابة المهندسين قامت بمسح آخر للأضرار ونشرته ضمن تقرير في 25 آب 2020 يحدّد مواقع المباني المعرّضة للانهيار الجزئي أو الكلّي وبلغ عددها 144.
 أمّا لجهة مصير السكّان المعرّضين للإخلاء، يمكن للبلديّة أن تلعب دور فاعل في حفظ الحقوق السكنية وتأمين بدائل وإطلاق برامج سكنية تزيد من المخزون السكني المتوفّر والميسّر في المناطق المتضررة ريثما تتم عملية التأهيل وليس فقط التركيز على تحديد المباني المتضررة. فبدل من إخلاء عقارات تملكها، وتخصيص أخرى لجمع الحطام والزجاج من المناطق المتضررة11، يمكنها استعمال بعض عقاراتها لإيواء مَن طُلِبَ إخلاءهم إلى حين وجود البديل.

 3. لجهة إصدار قوانين تخفف من أعباء أزمة السكن 

إجتمع مجلس النواب للمرّة الأولى منذ وقوع الإنفجار، بـ 13 آب 2020، أي بعد مرور 9 أيّام، ليس للبحث في حلول للأزمات العديدة المستجدّة، بل بهدف مساءلة الحكومة وإقالتها. إلاّ أنّ الحكومة استبقت المجلس وقدّمت استقالتها قبل يومين من تاريخ الجلسة. فتحوّلت جلسة المساءلة (التي فقدت غايتها)، بعد إصرار بعض النواب، إلى جلسة تشريعية، حيث أقرّوا قانون تعليق المهل والّذي من شأنه «...إعطاء المواطنين و المؤسسات فترة لإلتقاء الأنفاس..»
إلّا أنّ قراءة سريعة لهذا القانون توضح أنّه لا يستفيد منه سوى رزمة محدودة من المواطنين والمؤسسات، خاصّةً لناحية أزمة السكن:
-مدّد القانون 2020/160 الّذي يقضي بتعليق جميع المهل القانونية والقضائية والعقدية، رغم عموميّة وعدم وضوح نصّه. فهو لا يتناول موضوع تعليق إيفاء بدلات الأجارات صراحةً، ولا يحدد آليّة واضحة لتسديد البدلات المتراكمة بعد انقضاء مهلة التعليق المحددة قانونًا، ممّا سيسبب مشاكل بين المؤجر والمستأجر. ولم يلغي إستثناء المستفيدين من قانون الأجارات القديم رغم أنهم يشكلون الأكثرية الساحقة من السكّان المتضررين بالإنفجار والأكثر عرضة لخطر الإخلاء.
فكان من المتوقّع أن يصدر قانون يمنع الإخلاءات بشكل صريح ويحدد مصير الإجراءات التي بوشر العمل بها قبل تاريخ نفاذ هذا القانون.
-علّق تسديد القروض السكنية دون تحديد آليّة واضحة لتسديد القروض المتراكمة بعد انقضاء مهلة التعليق المحددة قانونًا، ممّا سيسبب مشاكل بين القارض والمقترض.
-حصر تعليق الإجراءات القانونية والقضائية لتلك الّتي بوشرت أو اتخذت إعتباراً من تاريخ 2020/7/1، معرّضًا المتعثرين عن دفع قروضهم السكنية والذين بوشرت بحقهم الإجراءات القضائية قبل التاريخ المعلن لخطر إخلاءهم من سكنهم. (علمًا أنّ أكثرية المقترضين توقفوا عن سداد قروضهم السكنيّة منذ 2018)
-عفى من ضريبة الأملاك المبنيّة ومن رسوم البلدية، الأبنية السكنية وغير السكنية الّتي تضررت بنتيجة إنفجار مرفأ بيروت، وذلك عن العام 2020. وكان من الممكن ربط هذه الإعفاءات مع محفّزات أخرى لحماية السكّان وضمانة استمرارية سكنهم في الأبنية المؤجّرة. 
بعد مرور شهر تقريبًا، لا يزال مصير مهجّرو إنفجار المرفأ مجهول. فبالرغم من الإطلالات العديدة لمختلف المسؤولين على وسائل الإعلام وتطميناتهم «بالتعويض السريع والعادل»، لم تتواصل أيّ من الجهات الرسمية المعنيّة بهم للتعويض عليهم، أو لتصليح الأضرار، أو لإيجاد أماكن سكن بديلة، أو حتّى للإطمئنان على سلامتهم.
لم يصدر أي قانون أو قرار أو بيان يضمن حقوقهم السكنيّة، فيمنع الإخلاءات العشوائية، ويحفظ حق المستأجرين (القدامى كما الجدد) في العودة إلى منازلهم بعد إتمام أعمال الترميم، ويحمي المالكين من إستغلال السماسرة لوضعهم الحرج ودفعهم على بيع ممتلكاتهم بأسعار زهيدة.
تُرك المتضررين لسبيلهم. فمنهم من لجأ عند أقاربه، ومنهم من ترك بيروت ليحتمي في ضيعته، ومنهم من لازم محلّه، وسط الخراب الذي كان منزله، لعدم توفر البديل أو لضمان بقائهم في الحيّ.

لكل هذه الأسباب، سنحاول إرساء مسارات من شانها أن تضع جميع السكان في صلب عملية التعافي وتقديم الدعم القانوني والاجتماعي للفئات الأكثر عُرضة للتهميش.
ضمن هذه الجهود نطلق مبادرة مسح إجتماعي إقتصادي للأحياء وندعو المتضررين والعاملين الاجتماعيين التبليغ عن الأضرار والتهديدات في السكن.