القروض السكنية تفاقم اللامساواة

دراسات وتوصيات

تقرير حول بلاغات «مرصد السكن» للمتعثرين عن تسديد القروض السكنية في ظل الأزمة المالية

إدارة البيانات جنى حيدر
تحليل وكتابة عبير سقسوق، جنى حيدر، جوان شاكر ونادين بكداش
مساهمة قانونية زينة جابر

منذ التسعينات، تجاهلت الدولة الحاجة الماسة إلى سياسةٍ سكنيةٍ تعالج أزمة السكن متعددة الأشكال والحاجات، واختارت بدلًا منها توجهًا أحاديًا هو الإقراض السكني للتملّك. ذلك الخيار روّج للتملّك كوسيلةٍ وحيدةٍ لتأمين السكن الآمن والمستدام، بالرغم من الأعباء المالية التي تلازم المقترِضين لعقودٍ طويلة. لم يرافق هذا التوجّه أي حوافز أخرى للسكن، بل على العكس، جرى تقويض الوصول إلى السكن بالإيجار أو عبر برامج تؤمّن حيازةً مستدامةً للأرض والمسكن، ما دفع بآلاف العائلات التي تتمتّع بالشروط المطلوبة إلى اللجوء للاقتراض من المصارف بغية التملّك.

اليوم، يوجد حوالي 138,000 قرضٍ سكني مدعومٍ من مصرف لبنان، تتوزّع على الشكل التالي: 84,000 منها – أي ما يساوي 60% من مجموعها - قروضٌ تُمنح عبر المؤسسة العامة للإسكان، بينما تتوزّع النسبة المتبقية على المصارف الخاصة، حيث يخضع بعضها لبروتوكولاتٍ معتمدةٍ مع جهاز إسكان العسكريين، وصندوق تعاضد القضاة، ووزارة المهجّرين، والأمن الداخلي والأمن العام، وينتفع من بعضها الآخر المواطنون غير المستفيدين من الأجهزة المذكورة.1

مع بداية الأزمة الاقتصادية الراهنة وتقلّص الوظائف وفرص العمل والرواتب، عانت أسرٌ عديدةٌ عدم القدرة على تسديد أقساط القروض الشهرية. في هذا السياق، أطلق مرصد السكن في كانون الأول 2019 استمارةً لرصد حالات التخلّف عن تسديد القروض. وفي خلال ثلاثة أيامٍ فقط، ورد إلى المرصد 127 حالة أبلغت عن تعثّرها في تسديد القروض السكنية. وكان هدف الاستمارة التوصّل إلى صياغة مطالب إجرائيةٍ تضمن للعائلات الاحتفاظ بمساكنها وتلبّي الحاجات المختلفة للمقترِضين.

اليوم، بات هذا الهدف بالغ الأهمية نظرًا لتأثّر مداخيل عددٍ هائلٍ من الأسر في لبنان بسبب الإجراءات الوقائية لمنع تفشّي جائحة كورونا، بالتزامن مع الانهيار الاقتصادي السياسي. ومع احتدام الأزمة الاقتصادية، بلغت البطالة نسبةً قياسيةً في ظلّ توقع بعض الدراسات أن تطال 65%2 من القوة العاملة. يعني هذا أن مليون شخصٍ ممّن كانوا يعملون ويعيلون أسرَهم سيفقدون رواتبهم، بالإضافة إلى من تقلّصت أجورهم أو مداخيلهم، أو أُجّل تسديدها جزئيًا أو كليًا. وفي ١٣/٥/٢٠٢٠، صدر قانون «تعليق اقساط الديون والاستحقاقات المالية لدى المصارف وكونتوارات التسليف» رقم ١٧٧/٢٠٢٠ ليعلّق تسديد كافة دفعات أقساط القروض بين الأوّل من نيسان ٢٠٢٠ وحتى آخر تشرين الأوّل ٢٠٢٠، دون تحديد كيفية جدولة أو إعادة تسديد الدفعات المستحقة. ويبدو اليوم واضحًا أن القانون المذكور لا يأخذ بعين الاعتبار الفترة السابقة قبل ١٧ تشرين حين بدأت الأزمة الاقتصادية ولم يتوقع امتداد الأزمة وتفاقمها في الشهور التالية له.3

في هذا التقرير، نحلّل البلاغات التي وردت إلى مرصد السكن بين شهرَي تشرين الثاني وكانون الأول، والأرقام التي أعلنتها المؤسسة العامة للإسكان، لنقدّم قراءةً نقديةً تخلص إلى افتقار قروض الإسكان إلى منظور السياسة السكنية والهدف الاجتماعي التنموي.

مَن أبلغ عن التخلّف عن تسديد القروض؟

وردت إلى المرصد 127 حالة لأشخاصٍ تخلّفوا عن تسديد القروض السكنية، مع الإشارة إلى أن هذه العيّنة لا تمثّل وحدها واقع كافة المقترِضين وأوضاعهم المتنوعة. ويعود ذلك إلى المنهجية التي اتبعناها للوصول إلى الأُسر عن طريق نشر الاستمارة على مواقع التواصل الاجتماعي، وما يتضمّنه ذلك من عوائق كعدم وصول الاستمارة بالتساوي إلى مختلف المناطق والفئات الاجتماعية. لكن على الرغم من ذلك، نعتبر أن عدد الحالات الواردة وسرعة التبليغ عنها (وردَتنا الحالات المئة الأولى في أقل من 48 ساعةٍ من نشر الاستمارة) تسمح باستخلاص استنتاجاتٍ أوّليةٍ بشأن أوضاع الأُسر التي باتت عاجزةً عن تسديد أقساط القروض الشهرية.
لكن مَن هم أصحاب الحالات الـ 127؟
على مستوى التوزّع الجغرافي، ورد العدد الأكبر من الحالات من محافظة الشمال (54 حالة، بينها 31 في طرابلس)، مقابل 42 حالة من محافظة جبل لبنان، علمًا بأنها تضمّ العدد الأكبر من سكان لبنان والنسبة الأكبر من القروض السكنية بحسب إحصاء المؤسسة العامة للإسكان (60% من مجمل القروض). وإذا ما نظرنا إلى خريطة الحالات، نجد أن توزّعها يتطابق مع مؤشراتٍ أخرى على الصعيد الوطني، أبرزها ارتفاع مستوى الفقر والافتقاد إلى الخدمات الأساسية.4
وفي حين قد تفسّر آليّة نشر الاستمارة تلك الأرقام، تجدر الإشارة إلى أن 80% من أصحاب الحالات كان دخلهم الشهري قبل الأزمة أقل بخمسة أضعافٍ من الحدّ الأدنى للأجور (الرسم البياني 1)، أي أقل من 3,375,000 ليرة لبنانية. وبالنظر إلى أسعار مساكن الحالات المذكورة (الرسم البياني 2)، يتبيّن أن المبلّغين الخمسة الأقل دخلًا اشتروا المساكن الأرخص ثمنًا، ما ينعكس أيضًا على متوسط قيمة القروض لهذه الفئة (الرسم البياني 3). واللافت أن أصحاب الدخل الأدنى هم الأكثر عرضةً للتعثّر بالرغم من صغر حجم قروضهم وشرائهم المساكن الأرخص ثمنًا في المناطق الأفقر. ويعود ذلك إلى أنهم ينفقون جزءًا أكبر من مداخيلهم الشهرية لإيفاء أقساط القروض، مقارنةً بالمقترِضين ذوي الدخل الأعلى (الرسم البياني 4). إذًا، يزداد عبء القرض مع تدنّي قيمته، نظرًا لتدنّي قيمة دخل المُقترِض أساسًا. هكذا، تُظهر الأرقام بوضوحٍ أن الأزمة فاقمت حال اللامساواة وزادت من ضعف فئةٍ كانت في الأساس أكثر هشاشة.

لماذا التعثّر في تسديد القروض؟

شكّلت قروض المؤسسة العامة للإسكان حوالي 70% من الحالات الـ 127، مقابل 30% من قروض المصارف (الرسم البياني 5). ويُعد مستوى دخل المُقترِض الفارقَ الأبرز بين قروض مؤسسة الإسكان وقروض المصارف، إذ تشترط المؤسسة أن يكون دخل المقترِض أقلّ من 4500$. لكن فعليًا، يظلّ معدّل مدخول المبلّغين المقترِضين من المصارف أقلّ من أربعة أضعاف قيمة الحدّ الأدنى للأجور، متساويًا بذلك مع معدّل مدخول المقترِضين من المؤسسة العامة للإسكان. ويؤشّر هذا إلى أنّ مستوى الدخل يشكّل عاملًا حاسمًا في تحديد احتمال التعثّر عند الأزمات، بغضّ النظر عن قنوات الاقتراض.5

أبرمت المؤسسة العامة للإسكان منذ نهاية ١٩٩٩، ٨٤٠٠٠ اتفاقية قرض بـ ١٠،٣١٧ مليار ليرة لبنانية (أي ما يوازي ٦،٨ مليار دولار بحسب سعر الصرف الرسمي). هنالك فقط ثمانية ألف قرض تم تسديده، ولا يزال ٥٦ ألف قرض في المرحلة التقسيط الأولى، أي رأس المال للمصارف، و ١٨ ألف قرض في المرحلة الثانية، أي تقسيط الفوائد للمؤسسة العامة للإسكان بدفعات شهرية متدنية نسبة للمرحلة الأولى. وبحسب المؤسسة العامّة للإسكان، لولا بعض القوانين التي أقّرت مع بداية هذا العام، تقوم بحماية المتعثّرين الجدد على تسديد دفعات القروض، لزادت حالات التعثّر من ما دون ال٢٪ قبل أيلول ٢٠١٩ إلى ما فوق ال١٥٪ من قروض المؤسسة حاليّاً.مما يعني أنّ اليوم هناك ٧٤ ألف حالة مُعرضة للضغوطات المعيشية ومنها ١١١٠٠ (15%) حالة (ان لم يكن أكثر) معرّضة للتشرد إن لم تتخذ الحكومة التدابير الوقائية اللازمة لضمان مسكنهم، وبشكل سريع.

تخضع قروض المؤسسة لمعايير مختلفةٍ عن معايير قروض المصارف الخاصة، كما تختلف في طريقة سدادها. فالاقتراض من المؤسسة محصورٌ بالفئات التي لا يتجاوز مدخولها الشهري 4500$ أو ما يعادل عشرة أضعاف الحدّ الأدنى للأجور، في حين ليس من سقفٍ محددٍ لمدخول المقترِضين من المصارف الخاصة. بمعنًى آخر، تستهدف المؤسسة الفئات الأفقر في المجتمع. أما بالنسبة لطريقة السداد، فتعتمد المصارف آليّة تسديدٍ تحتسب قيمة الفوائد موزّعةً على المدّة الزمنية للقرض، فتبقى قيمة الأقساط الشهرية ثابتة (أو متحرّكة بالتوازي مع مؤشّرٍ معيّنٍ للفوائد) طيلة مدّة القرض. أما المؤسسة العامة للإسكان، فتقسّم سداد القرض على مرحلتين متساويتين زمنيًا: مرحلةٌ أولى تُسدّد فيها أقساط رأس المال للمصارف، ومرحلةٌ ثانيةٌ تُسدّد فيها أقساط الفوائد للمؤسسة العامة للإسكان عبر دفعاتٍ شهريةٍ منخفضةٍ مقارنةً بالمرحلة الأولى. فمن جهة، تخفّف طريقة التسديد هذه العبء عن كاهل عائلاتٍ قد تكون ازدادت نفقاتها نتيجة التغيّرات الحياتية الطبيعية؛ ومن جهةٍ ثانية، تكون قيمة الفائدة الفعلية لقروض المؤسسة أقلّ من قيمة الفائدة الفعلية لقروض المصارف، وإن بدت متساويةً شكليًا، بفضل الطريقة المذكورة في احتساب الأقساط. هذه الفروقات الثلاثة تجعل من قروض المؤسسة حلًا أكثر واقعيةً للشرائح الأفقر. لذا، تأتي نسَب التعثّر في تسديد قروض المؤسسة أقلّ من نسَب التعثّر في المصارف الخاصة، حتى منذ ما قبل الأزمة. ولذلك أيضًا، تستحوذ المؤسسة على نسبة 60% من مجموع القروض السكنية في البلاد.

وتعكس الحالات التي وردت إلى مرصد السكن ديناميّة السوق العقاري التي رافقت قروض الإسكان والسياسات المالية الكامنة خلفها، إذ نرى اتجاهًا تصاعديًا في عدد الحالات المبلغ عنها مع تقدّم السنين، تماشيًا مع ازدياد الحاجة إلى القروض نتيجة تضخم أسعار العقارات منذ عام 2006. كذلك نلاحظ اتجاهًا تصاعديًا في قيمة القروض مع تقدّم السنين، ما يعكس بدوره ازدياد حجم القرض الواحد بالتوازي مع ارتفاع قيمة العقارات، وهو ارتفاعٌ حفّزه تزايد أعداد القروض السكنية نفسها، عاكسةً ارتفاعًا وهميًا للقدرة الشرائية في السوق العقاري.

ومنذ حزيران 2019، ازداد عدد المتعثّرين في تسديد القروض، ما دفع بالمؤسسة العامة للإسكان إلى إنذار المقترِضين المتخلّفين عن تسديد المرحلة الثانية من القروض بضرورة المبادرة إلى تسديد المتأخرات المترتبة عليهم.

وكما أسلفنا، فإنّ الغالبية العظمى من الأُسر التي أبلغت عن تعثّرها في تسديد أقساط القروض بين تشرين الثاني وكانون الأول 2019، هي أسرٌ محدودة الدخل، أي يقلّ دخلها عن 3,375,000 ليرة شهريًا. وكان ما نسبته أكثر من 40% من هذه الأُسر يسدّد 50% أو أكثر من مدخوله الشهري لتسديد أقساط السكن، حتى قبل الأزمة المعيشية. ولدى تحليل الحالات الواردة، نجد أنّ ما نسبته 20.5% من تلك الأُسر فقد القدرة على التسديد بسبب خسارة مدخوله. ولدى رصد تغيّر الأوضاع المعيشية قبل الأزمة وبعدها، نلاحظ أنّ مداخيل أكثر من 75% من الأسر المبلّغة انخفضت إلى أقلّ من نصف قيمتها الأساسية عند الاقتراض (الرسم البياني 6)، بينما خسر ما نسبته حوالي 15% مدخوله الشهري بالكامل. واللافت أيضًا أن مداخيل البعض تقلّصت قبل أكثر من سنةٍ من الانهيار الاقتصادي الواضح. أما الأسباب الأخرى للتعثّر في تسديد القروض بحسب الحالات الواردة إلينا، فجاء في مقدّمتها غلاء المعيشة، تلته المستجدّات الحياتية الطارئة كالمرض، وتحديد سقف السحب النقدي بالدولار، وارتفاع قيمة القسط أو قيمة التأمين الإلزامي للمُقترِض.

ويجدر الذكر هنا أن تدنّي المداخيل وغلاء المعيشة لم يكونا حادثاً عرضيّاً أو سوء حظ. طبعاً ظروف المنطقة الأمنية والاقتصادية لم تكن مساعدة. وانّما يبقى تدنّي المداخيل وغلاء المعيشة نتيجةً مباشرة وحتمية معروفة مسبقاً للسياسات المالية التي حكمت لبنان منذ خروجه من الحرب الأهلية. فتثبيت سعر الصرف ينتج نموذج اقتصادي يتّكل حصراً على تدفّق الرساميل من الخارج، ولذلك يتطلّب ارتفاعاً متواصلاً بالفوائد وصولاً إلى مستويات تخنق الاقتصاد. هو نموذج يحفّز القطاعين العقاري والمصرفي على حساب القطاعات المنتجة الموفّرة للوظائف، إذ يسمح للرساميل الخارجية بالدخول إلى لبنان والإستفادة من فوائده المرتفعة والخروج دون فقدان قيمتها عبر تراجع العملة المحلية. ونتيجة الركود الاقتصادي، يصبح من المستحيل دفع الديون الخاصة والعامّة المتراكمة (أنظروا الملحق في الأسفل: "السياسات المالية وراء قروض الإسكان: سبب الأزمة").

بناءً عليه، نستخلص بعض التبِعات المتشعّبة لأزمة قروض السكن على المستوى المعيشي للمقترِضين؛ فبتسهيلها عملية امتلاك المسكن، خلقت القروض واقعًا في السوق العقاري معاكسًا للواقع المعيشي، ما أدّى إلى تصاعدٍ تدريجي في الأعباء التي أثقلت كاهل المُقترِض. بمعنًى آخر، وبسبب درّ الأموال بهدف مواكبة ارتفاع أسعار العقارات عوضًا عن كبح الأسعار بما يتناسب والقدرة الشرائية للعائلات، باتت القروض تشكّل عبئًا ترزح تحته العائلات على مدى 20 أو 30 عامًا، في ظلّ وضعٍ اقتصادي ومعيشي هشٍّ وغير مستقر.

التهديد بالإخلاء وضبابية المعلومات

إلى جانب رصد تغيّر الأوضاع المعيشية للحالات المبلغ عنها، رصدنا حالات تهديدٍ بالإخلاء وغيره من الضغوط التي يتعرّض لها المقترِضون. فقد أبلغت 60 حالةً من أصل 127 عن تلقّي تهديداتٍ بالإخلاء من قبل المصرف. ويعني هذا فعليًا تهديد 25 فردًا، بينهم أطفال، بخسارة مساكنهم. والمفاجئ أن التهديدات تتخذ شكل إنذاراتٍ شفهيّةٍ عبر الهاتف من دون الرجوع الى الأصول القانونية لتقديم الإنذارات، ما يجعلها أولًا غير رسميةٍ وغير قانونية، وثانيًا بمثابة ضغوطاتٍ ومضايقاتٍ تنتهك حقّ المقترِضين بالسكن الآمن وتثير خوفهم مستغلّةً عدم معرفتهم بالأصول القانونية. وبالإضافة إلى ضعف اطّلاع المقترِضين على الإجراءات القانونية للإخلاء، أشار بعض المُبلّغين إلى صدمتهم بزيادة الأقساط الشهرية، وهو إجراءٌ لم يكونوا على علمٍ به عند إبرام اتفاقية الاقتراض. كذلك تعاني إحدى الحالات من عدم إمكانية الوصول إلى أيّ معلوماتٍ تتعلّق بقرضها، ببساطةٍ لأن المؤسسة العامة للإسكان لا تجيب على رقم هاتفها المتوفّر للعموم!

تشير هذه الوقائع إلى ضبابيةٍ تنتهجها المصارف في تنفيذ بنود اتفاقيات القروض وفي احترام حقوق المقترِض وواجباته، في وقتٍ يُعد الوضوح ركيزةً لأيّ عقدٍ أو اتفاق، ما يحوّل تلك القروض إلى مصيدةٍ لأصحاب الدخل المحدود.

خلاصة

يبدو جليًا إذًا استحكام المنظور الربحي بمصير القروض السكنية في ظل غياب أي توجيهٍ تنموي يلحظ واقع الظروف السكنية وحاجات السكّان. فعلى الرغم من أن المؤسسة العامة للإسكان تمنح 60% من مجمل القروض السكنية في لبنان - ما يضعها في طليعة الجهات المانحة - يبقى مجموع قيمة قروض المؤسسة أقلّ من قيمة القروض الممنوحة من المصارف التجارية. وقد يعود السبب إلى أن المصارف تسمح بإقراض مروحةٍ أوسع من الشرائح الاجتماعية، ولا تفرض سقفًا على قيمة القروض. بالتالي، وكما يشرح مدير المؤسسة العامّة العامّة للإسكان6، تمنح المصارف قروضًا بسقفٍ أعلى من سقف قروض المؤسسة البالغ 243 مليون ليرةٍ للقرض، فالواقع يبقى أنّ نسبة كبيرة من أموال القروض المدعومة تذهب إلى الشرائح الأعلى دخلًا. هذا وتتزامن القروض السكنيّة مع غياب تامّ لأيّ برامج لتأمين السكن الميسّر خارج نطاق التملّك، أو أي ضوابط لأسعار الإيجارات. وبذلك تتفرّد بتقديم حلّ لسكن لائق ومستدام. علماً أنها، كما رأينا، تشكّل عبئاً أكبر على أصحاب المداخيل الأصغر، وهذا تماماً عكس النتيجة المرجوّة لأي سياسة إسكانية، إذ أنها تفاقم اللامساواة بدل من أن تعالجها.

عليه:
نظراً لكون السياسات الإسكانية للدولة اللبنانية على ثلاثة عقود أدّت إلى ارتفاع أسعار العقارات عوضاً عن كبحها لما يتناسب والقدرة الشرائية للعائلات، ما أدّى الى زيادة أرباح الشركات العقارية وتصاعد تدريجي بالأعباء على المقترضين يرزحون تحتها طوال 20 إلى 30 سنة،
ونظراً لكون السياسات المالية للدولة اللبنانية على ثلاثة عقود أغنت المصارف والشركات العقارية على حساب المجتمع الأوسع وأدّت مباشرةً إلى تدنّي المداخيل وغلاء المعيشة، فكّي الكمّاشة التي خنقت الاقتصاد اللبناني وأدّت إلى تعثّر القروض،
ليس للمصارف أو للشركات العقارية أي حق بوضع اليد على مساكن ذوي القروض المتعثّرة. ولا يكون المشرّع اللبناني عادلاً إلّا إذا حمى المتوقّفين عن الدفع من خطر الإخلاء.

يهم مرصد السكن، متابعة رصد حالات عدم القدرة على تسديد القروض، وبذلك بهدف بلورة مطالب إجرائية تضمن حفاظ العائلات على مساكنها وتلبي الحاجات المختلفة لأصحاب القروض، كما تقديم الاستشارة القانونية من قبل محامين والنظر في إمكانية متابعة حالات عبر القضاء.
اذا كان لديكم قرض سكني، وغير قادرين على تسديد دفعات القروض، بلغوا هنا.


ملحق:
السياسات المالية وراء قروض الإسكان: سبب الأزمة

في الـ ٢٠٠٨ ونتيجة للتدفق الهائل لأموال المغتربين والأجانب في ظلّ الأزمة الاقتصادية العالمية، عمد مصرف لبنان إلى تحويل فائض رأس المال إلى القطاع العقاري وذلك عبر سياسات مالية محفّزة للمطوّرين والمصارف على حدّ سواء. على أثر المضاربة العقارية وإباحتها للمصارف، تضاعفت الاستثمارات وشهدت الأسعار ارتفاعاً حاداً. مع هذا الارتفاع في الأسعار، أصبح معظم اللبنانيين عاجزين عن شراء مسكن لا سيّما في العاصمة بيروت. ومع انخفاض القدرة الشرائية للسكان مقابل ارتفاع أسعار الشقق، عمد مصرف لبنان إلى دعم الطلب على الشقق عبر منح قروض سكنية للبنانيين، وذلك سعيًا منه لمنع انخفاض الأسعار لتتلاءم مع واقع العرض والطلب. فأقرّ عام ٢٠٠٩ ما لُقّب بتعميم الحوافز الذي يسمح للمصارف بتوظيف الاحتياطي الإلزامي من دون سقف في القروض السكنية. نتيجةً لذلك، سُجّل بين عامي ٢٠٠٩ و٢٠١١ أكبر عدد من القروض المدعومة من البنك المركزي توازياً مع رفع سقف القروض من ١٧٠ مليون إلى ٢٧٠ مليون ل.ل.

عاد وتقلّص تدفّق الرساميل إلى المصارف اللبنانية ابتداءً من العام ٢٠١١ مع تراجع الوضع الأمني في سوريا، فتحوّلت الطفرة العقارية إلى أزمة عقارية وسكنية بدءً من العام ٢٠١٢. وبحلول العام ٢٠١٣، كانت المصارف اللبنانية قد أشرفت على استنفاذ الاحتياطي الإلزامي، فحدد مصرف لبنان سقف القرض في التعميم ٣١٣.

استمر تقلّص الرساميل الوافدة الى المصارف اللبنانية مع استمرار الحرب السورية، فتجلّت الأزمة في العام ٢٠١٥، عندما اتّضح أن الدولة اللبنانية لن تستطيع تجديد ديونها بالدولار ما لم ترفع الفوائد على هذا الدين. وكي لا ترتفع هذه الفوائد وتظهر الأزمة للعلن، ابتدع حاكم مصرف لبنان الهندسات المالية المشهورة، التي كافأت المصارف بالعملة اللبنانية (التي يستطيع مصرف لبنان خلقها) مقابل شراء المصارف لليوروبوندز وامدادهم الدولة اللبنانية بالدولارات التي تحتاجها لسداد مستحقات اليوروبوندز القائمة.

بخلقه الليرات التي يحتاجها في هذه الهندسات المالية، زاد مصرف لبنان الكتلة النقدية بحدود ال٤٠٪. وهذه الأموال من شأنها التسبّب بالتضخّم إذا استثمرت في السوق. لذا أوقف مصرف لبنان دعم القروض السكنية الكبيرة في العام ٢٠١٥. وامتدّت الهندسات المالية إلى العام ٢٠١٦ وتزايد خطر التضخّم ضاغطاً باتجاه تراجع الليرة، فكانت النتيجة أن منع مصرف لبنان استخدام الاحتياطي للقروض السكنية عام ٢٠١٧، فتوقّفت بذلك القروض السكنية المدعومة.

ولكن ذلك لم يكفِ للحد من مترتّبات الانفجار في الكتلة النقدية الناتج عن الهندسات المالية. فجاء مؤشّر التضخّم لحزيران ٢٠١٨ مرتفعاً إلى ما فوق ال٧٪. كما أن مؤسسة الإسكان كانت قد عملت طوال العام لاستعادة دورها في دعم الإسكان والدورة الاقتصادية عبر اللجوء إلى مجلس النواب واقناعه بتخصيص ١٠٠ مليون دولار من الخزينة العامة للمؤسسة. ولكن قبل صدور قانون بهذا الشأن ببضع أسابيع، لقطع الطريق على المؤسسة ولإعادة امتصاص السيولة التي كان قد ضخّها في هندساته المالية، أصدر مصرف لبنان التعميم ٥٠٣. حدّد التعميم ٥٠٣ سقف التسليفات المصرفية بالليرة اللبنانية بنسبة ٢٥٪ من مجموع الودائع بالليرة لدى المصرف، علماً منه أن القطاع المصرفي كان قد تجاوز هذا السقف بأشواط قبل صدور التعميم، حيث بلغت التسليفات المصرفية بالليرة نحو ٣٧٪ من مجمل الودائع بالليرة. بهذا، ليس فقط بات من غير الممكن، بالنسبة إلى المصارف، التسليف بالليرة للقروض السكنية أو غيرها، لا بل أيضاً توجب عليها تقليص حجم تسليفاتها بالليرة — وهذا الهدف من التعميم. كما حفّز هذا التعميم تنافس المصارف فيما بينها على الودائع، فارتفعت فجأة الفوائد على الودائع، وبالتالي تعثّر المقترضين من المصارف بفوائد غير ثابتة. ويجدر الذكر هنا أن الارتفاع الهائل في الفوائد يقتل الاستثمار، فيؤدي إلى انكماش اقتصادي وازدياد في البطالة متوازيين مع ارتفاع بالأسعار والإيجارات — فكّي كمّاشة يقع بينهما الناس العاديون فتزداد كلفة معيشتهم بالتوازي مع تقلّص مداخيلهم. والمقترضون هم المتضررون الأكبر، حيث ارتفعت الفائدة على التسليفات بالليرة إلى ١٢٪ كحدّ أدنى، فيما كانت في السابق لا تتجاوز ٩٪. وشكّل هذا الارتفاع بشكل غير مباشر تقليصاً جديداً للدعم المتوفّر للقروض السكنية، إذ فرض على المؤسسة العامة للإسكان الاختيار بين الإنفاق للحفاظ على استقرار الكلفة على الزبون بما يعنيه ذلك من تقليص عدد القروض الممنوحة، أو أن تحمّل الزبون الفرق في ارتفاع أسعار الفائدة بما يعنيه ذلك من كلفة إضافية عليه.


  • 1. من مقابلة مع مدير المؤسسة العامّة للإسكان بتاريخ 23 حزيران 2020
  • 2. عن almayadeen.net نقلًا عن "الدوليّة للمعلومات"
  • 3. قبل تشرين الأول 2019، كانت نسبة التعثر في تسديد قروض المؤسسة العامّة للإسكان تبلغ حوالي 2%. أمّا اليوم، فيقدّر رئيس المؤسسة هذه النسبة بأكثر من 15%، بينما يرجّح أن تكون أعلى من ذلك في المصارف الخاصة
  • 4. تمت المقارنة مع خرائط lebanonspatial.org
  • 5. تخضع قروض المؤسسة لمعايير مختلفةٍ عن معايير قروض المصارف الخاصة، كما تختلف في طريقة سدادها. فالاقتراض من المؤسسة محصورٌ بالفئات التي لا يتجاوز مدخولها الشهري 4500$ أو ما يعادل عشرة أضعاف الحدّ الأدنى للأجور، في حين ليس من سقفٍ محددٍ لمدخول المقترِضين من المصارف الخاصة. بمعنًى آخر، تستهدف المؤسسة الفئات الأفقر في المجتمع. أما بالنسبة لطريقة السداد، فتعتمد المصارف آليّة تسديدٍ تحتسب قيمة الفوائد موزّعةً على المدّة الزمنية للقرض، فتبقى قيمة الأقساط الشهرية ثابتة (أو متحرّكة بالتوازي مع مؤشّرٍ معيّنٍ للفوائد) طيلة مدّة القرض. أما المؤسسة العامة للإسكان، فتقسّم سداد القرض على مرحلتين متساويتين زمنيًا: مرحلةٌ أولى تُسدّد فيها أقساط رأس المال للمصارف، ومرحلةٌ ثانيةٌ تُسدّد فيها أقساط الفوائد للمؤسسة العامة للإسكان عبر دفعاتٍ شهريةٍ منخفضةٍ مقارنةً بالمرحلة الأولى. فمن جهة، تخفّف طريقة التسديد هذه العبء عن كاهل عائلاتٍ قد تكون ازدادت نفقاتها نتيجة التغيّرات الحياتية الطبيعية؛ ومن جهةٍ ثانية، تكون قيمة الفائدة الفعلية لقروض المؤسسة أقلّ من قيمة الفائدة الفعلية لقروض المصارف، وإن بدت متساويةً شكليًا، بفضل الطريقة المذكورة في احتساب الأقساط. هذه الفروقات الثلاثة تجعل من قروض المؤسسة حلًا أكثر واقعيةً للشرائح الأفقر. لذا، تأتي نسَب التعثّر في تسديد قروض المؤسسة أقلّ من نسَب التعثّر في المصارف الخاصة، حتى منذ ما قبل الأزمة. ولذلك أيضًا، تستحوذ المؤسسة على نسبة 60% من مجموع القروض السكنية في البلاد.
  • 6. من مقابلة مع مدير المؤسسة العامّة للإسكان بتاريخ 23 حزيران 2020