فكّر إسكان: تصوّرات بديلة نحو بيروت دامجة

دراسات وتوصيات

بعد عقود من تسليم أمر قاطني المدينة وحقهم في السكن لعناية السوق العقارية، آن الأوان لإرساء سياسة إسكانية ومدينية شاملة، بحيث تتحمل الدولة مسؤوليتها في هذا المجال. من هنا، وتصويباً للمسار، بدا ضرورياً العمل على اعتماد الشمولية في التفكير في أسس السياسة والحلول الإسكانية المُراد إرساؤها، من دون استبعاد حقوق سائر السكان من دائرة القرار. 
كتاب ومسابقة «فكّر إسكان» هما نتاج مسار بحثيّ وعمليّ طويل في هذا الاتجاه. انطلاقاً من مرويّات لا تُعد ولا تُحصى لسكان أحياء بيروت المتعددة، وبمشاركة عدد كبير من المهنيين والخبراء والطلاب، يقدّم الكتاب خيارات حقيقية من شأنها أن تلبي حاجات وتطلّعات كل من يشعر بأنّ هذه المدينة له وأنّ من حقه العيش والبقاء فيها. كما نسعى من خلاله إلى وضع حق السكن في واجهة الخطاب العام في لبنان، وإلى الإسهام في طرح رؤى وحلول أكثر تكاملاً وعدلاً، على أن يتمّ صياغتها بشكل تشاركيّ ومنهجيّ ومتعدد الاختصاصات تعزيزاً للمعرفة والتفاعل والتخاطب الاجتماعيين في هذا الشأن.
______

في ٧ أحياء من بيروت وفي ما يعادل ٤٠٠ مبنى من كل حيّ، تمّ رصد وتجميع حكايات وقصص تشهد على تحوّلات عدائية في البيئة العمرانية وترسم صورة عن هشاشة السكن في بيروت والضغوطات اليومية التي تتعرّض لها نسبة كبيرة من سكّان المدينة. وعبر تحليل البيانات، تم التعرّف على توجّهات سائدة في كيفية الوصول للسكن الميسّر في مدينة تنامى فيها التعامل مع الأرض كسلعة، حيث تنتشر المضاربات العقارية وتصل نسبة الشغور إلى معدّلات خيالية. كما تم توثيق عمليات تتشابه بين الأحياء في إخلاء المباني القائمة وتحويل استخدامها لزيادة الأرباح. وجميع هذه العمليات إمّا تنتج سكناً غير لائق أو تنتزع من الحيّ مخزوناً سكنياً كان بإمكانه أن يتيح فرصة لسكن مستدام.
 شكّل هذا السياق دافعاً لعدد من الجهات لإطلاق مسار طويل الأمد نحو إعادة الحق في السكن إلى واجهة النقاش العام في لبنان. ومسابقة «فكّر إسكان» هي من أولى الخطوات ضمن هذا المسار.
 عندما بادر المنظمون إلى العمل على المسابقة في 2018، كان الهدف إشراك عدد أكبر من الناس في طرح رؤى مستقبلية لمشكلة آنية، وهي التهجير المستمر للسكان الأكثر هشاشة في خمسة أحياء قديمة من بيروت - مستأجرين كانوا أو مالكين، لبنانيين كانوا أو أجانب. أراد المنظمون أن تغدو هذه الرؤى بدورها نقطة انطلاق لنقاش عام حول الحق في السكن في لبنان، وأن يتمّ الإجابة من خلالها على سؤال: كيف يمكن للناس - الذين لا تشملهم أية حقوق ملكية - أن يقطنوا في المدينة؟
كما أراد المنظّمون أن تمثّل الاقتراحات المُختارة بدائل عن الممارسات الحالية في التطوير العمراني السائد في لبنان الذي يقام على حساب الناس وعلاقاتهم الاجتماعية وبيئتهم العمرانية، وأن تكون نموذجاً يُحتذى به في وضع سياسات سكنية دامجة وإرساء مقاربة متكاملة للسكن، مؤمنة بأنّ السكن أكثر من مجرّد مأوى، إذ أنه يتضمّن الشبكات الاجتماعية والوصول إلى الموارد الأخرى التي توفّرها بيئة الحيّ.
 اليوم، وانطلاقاً من المقترحات والأفكار التي تطرحها المسابقة، المطلوب أن تفتح نتائجها نقاشاً حيوياً وجدّياً، لا سيّما حول تكريس الإمكانيّات التي يحويها النسيج العمراني القديم والشقق الشاغرة فيه. ندعو جميع المعنيين للمشاركة في هذا النقاش، بدءاً بالنواب والوزارات المعنية والمجلس الأعلى للتنظيم المدني وبلدية بيروت. 
ونأمل أن تكون هذه المسابقة الأولى من نوعها مدخلاً نحو المزيد من المبادرات والأبحاث حول موضوع السكن في المدينة، فهي أظهرت بوضوح أنّ الحلول متواجدة وكثيرة كما أثبتته المقترحات المقدّمة، وأنّ تنفيذها رهن الإرادة السياسية أولاً، والتعاون بين الأطراف المعنية ثانياً. فلم يكن الهدف من مسابقة فكّر إسكان أن تكون مجرد تمريناً فكرياً. بل أتت كمحاولة لسد الفجوة بين تعدد المهنيين من جهة والمجال السياسي العام من جهة أخرى. عندما ننظر إلى أنفسنا كجزء من مجتمع أكبر ينشغل بقضايا متعلقة بالبيئة المبنية والعدالة المكانية، تبدو المسابقة كبداية لعملية تزوّد المهنيين من مختلف التخصصات بفرصة للتواصل وتوسيع وتنويع «خدماتهم» من خلال لعب دور مهم في القضايا العمرانية الملحة. على هذا النحو، تم تصور المقترحات الفائزة بالمسابقة في المقام الأول كأدوات للدعوة إلى توسيع النقاش حول الحق في السكن ولترسيخ سياسات تُعنى بطرح حلول سكنية ميّسرة في أحياء المدينة الداخلية. وتم عقد سلسلة من ورش العمل والمنتديات المفتوحة من قبل منظمي المسابقة لدراسة إمكانية تنفيذ هذه المقترحات، بحضور أصحاب المصلحة والسكان والمشاركين في المسابقة للمضي قدما باحتمالية ما قد تقدمه كل منها للمدينة.
 في النهاية، نتقدّم بالشكر لكل مشاركة ومشارك في المسابقة، وكل فريق استثمر وقته وخبراته في سبيل هذا العمل الدؤوب. فإنّ هدف تحقيق مدنٍ دامجة وسكنٍ ميسّر للجميع – مع الإقرار بفشل السوق في إنتاج سكنٍ عادلٍ – يتطلّب جهوداً مركزةً من الجميع، لا سيّما دور الدولة المحوري في معالجة أشكال اللامساواة التي من الممكن تفاديها والتي تواجهها تحديداً الفئات الأكثر تهميشاً على المستوى الاجتماعي والاقتصادي.


حمل/ي الكتاب