إدارة البيانات جنى حيدر
تحليل وكتابة نادين بكداش، جنى حيدر، ريم طراد، عبير سقسوق
يشكّل الإيجار وسيلة أساسية للوصول إلى السكن في المدن اللبنانية التي تضمّ مختلف الفئات الاجتماعية، حيث تصل نسبة المستأجرين في بيروت إلى 49.5% من مجمل سكانها1. بيد أنّ الأرقام المتوفرة تقتصر على الإيجارات المبرمة بموجب عقود قانونية مسجّلة، من دون احتساب الترتيبات العرفية التي لا يصار إلى تسجيلها في البلديات أو تبرم من دون عقود مكتوبة.
في واقع الأمر، يعيش المستأجرون وسكّان المدن الرئيسية على اختلافهم في قلق مستمر على مستقبل سكنهم. هم في أزمة، يعانون يومياً من ظروف سكنية غير ملائمة للعيش الكريم، ويعانون خلال البحث عن سكن بتكاليف معقولة بالقرب من شبكاتهم الاجتماعية والاقتصادية، ويجهدون للحفاظ على ضمانة سكنهم.
اليوم، يواجه مئات الآلاف من العمال والعاملات الأجانب والعائلات المهاجرة واللاجئين من جالياتٍ غير لبنانيّة، خطر خسارة مساكنهم الذي بات يلوح في الأفق بشكل أكبر، لا سيما أنّهم يمثلون جزءًا من الفئات الأكثر تضررًا على المستوى الاقتصادي، من تداعيات قرارات التعبئة العامة المتتالية التي قضت على فرص العمل اليومية، وتبعات الأزمة الاقتصادية والمعيشية.
في إطار الجهود المبذولة للتصدي لهذه المعضلة السكنية ومواجهة حالات التهديد بالإخلاء – وبالنظر إلى النتائج الكارثية المترتبة على جائحة كورونا – دخل مرصد السكن في شراكة مع "حركة مناهضة العنصرية" (ARM) بهدف توثيق ومتابعة حالات التهديد بالإخلاء المجحفة بحق العمال والعاملات الأجانب والعائلات المهاجرة واللاجئين، ومدّهم بالدعم القانوني والاجتماعي اللازم لحماية حقوقهم. سوف نعرض في سياق هذا التقرير، دراسةً أجريت على 145 حالة كان المرصد قد تلقّاها عبر الخط الساخن لحركة مناهضة العنصرية خلال أشهر نيسان وأيار وحزيران من العام 2020 وتابعها عن كثب.
استنادًا إلى عملية التوثيق والمتابعة هذه التي أجراها مرصد السكن بشأن الحالات الـ 145 الآنف ذكرها، يكشف هذا التقرير عن تفاقم أوجه عدم المساواة وانتهاكات الحق في السكن التي نشهدها في الحياة اليومية، وترزح تحت وطأتها الفئات الأكثر تهميشًا.
عيّنة المبلغين
تقدمّت عيّنة مكوّنة من 145 مهاجر أو لاجئ من جنسياتٍ مختلفة بالإبلاغ عن حالات تهديد بالإخلاء، تصدّرها 51 مستأجرًا من الجنسية السودانية و34 آخرين من الجنسية الأثيوبية و29 سوريًا، بالإضافة إلى جنسياتٍ أخرى، نذكر منها البنغلادشية والكينية والنيجيرية والسريلانكية وغيرها.
انقسمت هذه العيّنة تقريبا بالتساوي بين مستأجرين لغرفٍ سكنيةٍ مباشرة من المالك داخل وحدة سكنية مقسمة وبلغ عددهم 69 حالة، وآخرين يتشاركون إيجار وحدات كاملةٍ بنسبة وعددهم 66. بطبيعة الحال، تكون العائلات أكثر ميلًا إلى استئجار شققٍ أو غرفٍ مستقلةٍ مع كامل منتفعاتها (مطبخ وحمام)، فيما ينزع الأفراد إلى استئجار غرفٍ داخل شقةٍ سكنيةٍ واحدةٍ يشغل فيها آخرون الغرف الأخرى.
واللافت أنّ أكثر من 95% من هذه الإيجارات قد أُبرمت من دون تحرير أي سندٍ خطي يجيز للمستأجر إشغال المأجور، وفي غياب أي عقدٍ مكتوبٍ أو إيصالٍ ببدل الإيجار. هذه النسبة الهائلة تدل على مستوى الهشاشة القانونية التي يعيشها المهاجرون واللاجئون، إذ يفتقرون إلى أدنى الشروط الصحية والهندسية ويعجزون عن حماية أنفسهم من خطر الإخلاء.
بالنسبة إلى استدامة السكن، بلغ متوسط مدة الإيجار 12 شهرًا ووصل في حالاتٍ أخرى إلى 15 أو 16 عامًا. أما عقد الإيجار الأقدم فعاد إلى عام 2004. بيد أنّ سنوات الإيجار الطويلة هذه لم تسهم في جعل المالك أكثر تفهّمًا أو صبرًا. إذ اشتكى المستأجرون في حالاتٍ كثيرةٍ من هذا الوضع بالقول "كنا نسدّد الإيجار بانتظامٍ على مدى السنوات الماضية، ولكننا لم نعد نستطيع ذلك بعد الآن"، في دلالةٍ واضحةٍ إلى عمق الأزمة الاقتصادية وتأثيرها على كافة الشرائح في المجتمع وإن بنسبٍ متفاوتة. أما مدة الإيجار الأقصر، فبلغت شهرًا واحدًا وسجّلها مستأجرون جددٌ أُجبروا على إخلاء مسكنهم القديم أو أخلوه برضاهم بسبب عجزهم عن تسديد بدل الإيجار، الأمر الذي ترتّب عليه في بعض الأحيان تنقّل البعض منهم بين أماكن سكنٍ مختلفةٍ ضمن فتراتٍ زمنيةٍ قصيرة. وقد ترجع هذه المدة القصيرة في بعض الأحيان، إلى مغادرة المستأجر/ة لمنزل كفيله/ا (بسبب تعرّضه/ا للعنف أو جراء ظروفٍ أخرى) أو إجباره/ا على الإخلاء (بالطرد وبالتالي التشريد في الشارع أو أمام أبواب السفارات).
135 شخصًا من هذه العيّنة (93%) هم إما عاملاتٌ وعمالٌ لا يحملون أوراق إقامةٍ أو يملكون تصاريح منتهية الصلاحية، الأمر الذي يثنيهم مثلًا عن اللجوء إلى الشرطة في حال تعرّضهم للعنف من قبل المالك. على صعيدٍ آخر، اشتكت مجموعةٌ من المستأجرين في حالاتٍ كثيرة، من احتجاز أصحاب المنزل لأوراقهم القانونية كوسيلةٍ للضغط عليهم من أجل تسديد الإيجار أو التأكّد من عدم فرارهم قبل السداد2. ومن هنا تتفرّع إشكالية نظام الكفالة الذي يقوّض موقف العمال المهاجرين على مختلف المستويات. وفيما يقضي القانون ذو الصلة بتأمين الكفيل مسكنًا للعاملة الأجنبية أو يلزمه باستضافتها في منزله (بناءً على عقد العمل الموحّد للعاملات في المنازل)، تعكس الحقيقة واقعًا مغايرًا، حيث يشكّل العمال المهاجرون جزءًا أساسيًا من نسيج المستأجرين. تجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ نظام الكفالة المعمول به يفاقم أوجه اختلال التوازن بين العمال المهاجرين بصفتهم مستأجرين من جهة، والمالكين اللبنانيين من جهةٍ أخرى. وفي أحيانٍ أخرى، يجد العمال المهاجرون/ اللاجئون أنفسهم في مواجهةٍ مع ناطور المبنى الذي يكون بدوره مهاجرًا أو لاجئًا، أوعز إليه المالك مهمة تحصيل الإيجار تحت طائلة حرمانه من المرتب. وردتنا أيضًا شكاوى متعدّدة من عددٍ من عمال أجانب تعرّضوا للعنف من قبل المالكين الذين لم يتوانوا عن احتجازهم داخل المنزل و/ أو تهديدهم بقوة السلاح، لا بل أيضًا تكليف بضعة أشخاصٍ بالتعدّي عليهم بالضرب لإجبارهم على إخلاء المأجور.
كل ذلك يشير إلى وجود اختلالٍ في ميزان القوى وغياب أي رادعٍ يكبح استبداد المالكين أو سلطةٍ قانونيّةٍ تحمي هذه الشريحة من سكان المدينة.
التوزّع الجغرافي ودلالاته بالنسبة للسكن الميّسر
تلقينا مختلف الشكاوى على الخط الساخن لحركة مناهضة العنصرية عبر شبكات الدوائر الاجتماعية التي عادةً ما تعمل الجمعية ضمنها، وتضمّ عائلاتٍ وعاملاتٍ وعمالٍ من جالياتٍ عربيةٍ وأجنبيةٍ لاجئةٍ أو مهاجرة، وتغطي بشكلٍ خاصٍ وعلى نطاقٍ واسعٍ مدينة بيروت وضواحيها. وقد انعكس ذلك على النطاق الجغرافي للحالات الـ 145 التي تركز معظمها ضمن منطقة بيروت الإدارية وضواحيها. مع أخذ ما تقدّم بعين الاعتبار، يمكن استخلاص الاستنتاجات حول التوّزع الجغرافي لعيّنة المبلغين، لما يحمله ذلك من دلالاتٍ بشأن واقع سكن العمال والمهاجرين في المدينة.3
وبحسب المعلومات المتوفّرة حول أماكن سكن المبلغين عن الحالات المذكورة (مراجعة الخريطة ١) – تنقسم المناطق التي يتوفّر فيها السكن للعمال والمهاجرين بكلفةٍ معقولةٍ إلى ثلاث فئات:
أولًا، المناطق غير الرسمية التي تضمّ النسبة الأكبر من المبلغين عن حالات التهديد بالإخلاء (39%). في لبنان، تلاشت تاريخياً أيّة معالجات لإشكالات السكن والتي تعني الفئات الأكثر احتياجاً لدعم الدولة. وقد أسهم غياب سياسة وطنية للأرض المتاحة بأسعار معقولة، في انتشار واسع للمناطق غير الرسمية في كافة المدن اللبنانية، أيّ مناطق لجأت إليها عبر مرّ العقود الفئات محدودة الدخل لبناء المنازل أو استئجار الأراضي أو الاستحواذ على عقاراتٍ عامةٍ أو خاصةٍ لا تعود ملكيتها إليهم وفق السجلات الرسمية. وعليه، يسكن اليوم أكثر من 50% من سكان لبنان في مناطق غير رسمية، ومن ضمنهم العمال الأجانب والمهاجرين على اختلافهم.
ثانيًا، الأحياء الواقعة ضمن منطقة بيروت الإدارية، حيث يقطن حوالي 20% من المبلغين. في حين خضعت أحياء بيروت الداخلية لمضارباتٍ عقاريةٍ شرسةٍ خلال العقود الفائتة، وتمّ هدم المباني فيها وتشريد نسبةٍ كبيرةٍ من سكّانها4، لا تزال المباني القديمة المنتشرة في أحياء بيروت تسمح بإبرام ترتيباتٍ سكنيةٍ متنوّعة. في الواقع، أدّت نسبة الشغور المرتفعة في هذه المباني القديمة (بفعل عمليات الإخلاء أو التهجير في الحرب) إلى بروز ظاهرة تقسيم الشقق إلى غرفٍ عدّة. يحبّذ المالكون بشكلٍ عامٍ تحويل عقاراتهم القديمة إلى غرفٍ تؤجّر لفئاتٍ اجتماعيةٍ مهمّشة، في ظلّ أوضاع سكنية غير لائقةٍ في كثيرٍ من الأحيان، وتفتقر إلى الخدمات الأساسية وأعمال الصيانة اللازمة. ولكن يبقى ذلك الخيار المفضّل لدى المالك، لا سيما أنّ تقسيم الشقق إلى غرفٍ يتيح له مضاعفة أرباحه، ولو عن طريق استغلال شريحةٍ هشةٍ من الناس تدفعهم حاجةٌ ملحةٌ إلى إيجاد مسكنٍ لهم داخل المدن على مقربةٍ من مكان العمل.5
التوزّع الجغرافي للمبلغين ومدّة السكن
من ناحيةٍ أخرى، يكمن التنوّع في المباني القديمة تحديدًا جراء التركيبات السكنية فيها من خلال ضبط الإيجار (ما يسمّى بالمستأجرين القدامى). كمّا أن جزءًا كبيرًا من المباني القديمة يسكنها المالكون الذين شيّدوا المباني وورثتُهم، بغية السكن في الشقق وتأجيرها في آنٍ معًا. بمعنًى آخر، تقع هذه المباني "خارج" سوق المضاربة العقارية، وبالتالي تتيح إمكانية الإيجار الميسّر.
ثالثاً، الأحياء الشعبية المترامية على أطراف المدينة، كبرج حمود والدورة وغيرها من المناطق، حيث يتوزّع مكان سكن ما يقارب 17% من المبلغين. لا تخضع هذه الأحياء للمضاربة العقارية ويصعب هدم المباني فيها بسبب معالمها التاريخية المرتبطة باللاجئين الأرمن أو التصاميم التوجيهية التي ترعاها. وبالتالي، يكثر في هذه البقع الوصول إلى السكن من خلال إيجاراتٍ ميسّرة.
أما النسبة المتبقية – حوالي 21% – فيتركز مكان سكنها بشكلٍ متفرقٍ ضمن مناطق بعيدةٍ عن المدنية، وذلك بسبب تدني تكلفة الإيجار فيها مقارنةً بنوعية المساكن القريبة من مراكز العمل والحركة الاقتصادية في بيروت.
لفتنا خلال زياراتنا للمستأجرين الأجانب القاطنين في المناطق غير الرسمية والأحياء الشعبية الدور المساند الذي أداه سكان الأحياء غير الرسمية وروابط الألفة التي تجمع بينهم، وقبول المحال التجارية والدكاكين تسجيل الديون على ذمة المشترين، وانخراط شرائح متنوّعة من السكان في المجتمع. كما أنّ هذه المناطق تجتذب ثلةً واسعةً ومتنوّعةً من السكّان من مختلف الجنسيات لارتباطهم بعلاقةٍ خاصةٍ مع هذه الأحياء حيث يمكن للأولاد اللهو واللعب في الشوارع، وينخرط أفرادها في المجتمع وتتوطّد علاقتهم به، بخلاف الأحياء الأخرى التي تغيب فيها الجاليات غير اللبنانية عن الحياة الاجتماعية العامة.
الوضع السكني مقابل القيمة التأجيرية: استغلال مفرط
يبرز نوع العلاقة التأجيرية وشروط السكن الآمن واللائق من بين المؤشّرات التي تدلّ على حالات انتهاك الحق في السكن التي تمّ رصدها من خلال البلاغات الواردة. فقد تراوحت بدلات إيجارات المبلّغين بين 112 ألف ل.ل. كحدٍّ أدنى، أي 75 دولارًا حسب سعر الصرف الرسمي، و975 ألف ل.ل. أي ما يوازي 650 دولارًا. أما المعدل الوسطي للإيجار، فقد بلغ 300000 ل.ل. أي 200 دولارًا6. وقد أبلغ بعض المستأجرين عن حالاتٍ طالبهم فيها المالك بتسديد الإيجار بعملة الدولار. ولكن، نظرًا لاشتداد أزمة الدولار، لم يعد هذا الأمر رائجًا في الآونة الأخيرة، حيث طلب بعض المالكين استيفاء الإيجار وفقًا لسعر صرفٍ أعلى من السعر الرسمي (كاحتساب قيمة 3000 ليرة لبنانية للدولار الواحد على سبيل المثال)، لا سيما أنّ عقد الإيجار غالبًا ما كان ينصّ على تسديد الإيجار بالدولار الأميركي.
تبرز أيضًا ظاهرة تقسيم الشقق إلى غرف سكنٍ غالبًا ما تكون مستحدثةً وضيقةً ومزدحمة، من دون وجود أيّ ضوابط على بدل الإيجار وظروف السكن. فأكثر من نصف المبلِغين اقتصر مسكنهم على غرفة نومٍ واحدةٍ ومطبخٍ وحمامٍ مشتركٍ مع آخرين قد يصل عددهم إلى 4 أشخاصٍ أو أكثر. يبدو أنّ مالكي الشقق يلبّون الطلب الهائل على السكن لدى شريحةٍ كبيرةٍ من العمال المهاجرين، عبر إبرام ترتيباتٍ مماثلة، في حين أنّ نسبة المخزون السكني المتوفّر في المدينة الذي يبقى شاغرًا بلا أي مساءلة تصل الى 50%7. إلاّ أنّ العلاقة غير المتكافئة بين المالك والمستأجر حيث تغيب الضوابط على العلاقة التأجيرية وظروف السكن وكيفية إدارة الأملاك الخاصة (كغياب النظام الضريبي الذي يحدّ من الشغور) بما يتناسب مع المصلحة العامة، ينتج واقعًا يغلب فيه هاجس مضاعفة الأرباح على معايير السكن الآمن والملائم.
إلى جانب ضيق المساحة والازدحام، تحقّقنا أيضًا من وضع المساكن، وتبيّن أن ما نسبته حوالي 19% من المستأجرين يعتبرون مكان سكنهم جيّدًا، و19% آخرين يعتبرونه مقبولًا، بينما يقطن ما نسبته 33% منهم في منازلٍ تشوبها عيوبٌ تضرّ بالصحة مثل العفن والرطوبة والنشّ. وتوزّعت النسب الباقية على أماكن سكنٍ تعاني من سوء الخدمات ومشاكل إنشائية، وتكثر فيها القوارض والحشرات، وتفتقر إلى أشعة الشمس، وتفوح منها روائح المجاري الكريهة جراء استحداث الغرف بالقرب من منشآت الصرف الصحي في المبنى، الأمر الذي يؤدّي إلى مشاكل صحيّةٍ على الأمد الطويل.
على وجه العموم، يشكّل سوق الإيجارات مصدر دخلٍ أساسي تستفيد منه شريحةٌ واسعةٌ من المالكين. وبالاستناد إلى البيانات المتعلقة بعيّنة المبلغين، نجد أنّ بعض المالكين هم شركاتٍ عقاريةٍ أو مستثمرين (6 حالات). إنما أكثرية المالكين هم من المالكين القدامى (59 حالة). كما توزّع المالكون بين من لديه مصادر دخلٍ متعدّدة (20 حالة)، ومنهم من يستند إلى الإيجار كمصدر دخلٍ أساسي (27 حالة).
إنمّا في بلدٍ يبلغ فيه الحدّ الأدنى للأجور حوالي 400 دولارٍ (على أساس سعر الصرف الرسمي أي 1500 ل.ل.) ولا يتعدّى فيه معدّل دخل الأكثرية الساحقة من الموظّفين والعمّال ما يجنيه بعض المالكين من بدلات الإيجار، تدعو الحاجة إلى فرض ضوابط على سوق الإيجارات لكبح استغلال الفئات الهشّة. على سبيل المثال، يتقاضى مالك أحد المباني الكائنة في منطقة الأشرفية، والمكوّن من أربعة طوابق وثماني شقق، أكثر من 4500$ شهريًا من حوالي 35 مستأجرًا لشققٍ سكنيةٍ عدة، تضمّ شقةً مؤجّرةً على أساس الإيجار القديم وأخرى تقطنها امرأةٌ بمفردها. أما الشقق المتبقية، فهي مقسّمةٌ إلى غرفٍ يستأجرها عمّالٌ وعائلاتٌ أجنبية، وأخرى تتقاسمها عاملاتٌ أجنبيات، وشقةٌ يتم تأجيرها «على أساسٍ فردي» لعمّال المرافق المجاورة حيث يتجاوز عدد المستأجرين 10 أشخاصٍ في بعض الأحيان في الشقة الواحدة.
وتبرز الحاجة إلى فرض الضوابط على سوق الإيجارات تحديداً لأنّ هذه القدرة على تحقيق الأرباح من الإيجارات - في حين تنتفي فرص العمل في القطاعات الإنتاجية وتصل البطالة إلى مستوياتٍ مرتفعة، وينعدم وجود أدنى شروط الأمان الاجتماعي من طبابةٍ وتعليمٍ وسكن - قد شجّعت صغار المالكين على استغلال الوضع على حساب أمن وسلامة المستأجرين، لا سيما أنّ هذا السلوك لا يقتصر على هذه الفئة من المالكين دون سواها. كما أنّ غياب الضوابط والرقابة "يُحرّر" مالكي الشقق والمباني من عبء اتخاذ ما يلزم من تدابير السلامة، كصيانة المباني وتأهيل المساكن وتوفير شروط سلامة السكّان في حال نشوب حرائق على سبيل المثال. باختصار، في معظم الأحوال، لا يتم تخصيص نسبةٍ من بدلات الإيجار لصيانة المباني وإعادة تأهيل الشقق، خاصةً عندما لا يكون المالك من سكان المبنى ذاته. وبالتالي، يعاني مستأجرٌ من أصل اثنين ظروفًا سكنيةً غير ملائمة. أما في الحالات التي يقطن فيها المالك المبنى ذاته مع المستأجرين (28 حالة)، فيولي الأخير العقارَ حيزًا أكبر من الاهتمام والصيانة.
تشكّل الإيجارات مصدر دخلٍ وربحٍ للمالكين، إلا أنّها لا تعود على الناس بالمنفعة العامة المرجوة والمتمثّلة في قدرتهم على تحمّل بدلات الإيجار مقابل الحصول على سكنٍ ملائمٍ ومستقر. فالسكن ليس سلعة، إنما هو حقٌ من حقوق الإنسان تمامًا كالحق في التعليم والطبابة. لذلك، فإنّ تنظيم الايجارات بات ضرورةً ملحةً من أجل إرساء هذا الحق وتكريسه، لا سيما في سياق التغيّرات التي تشهدها المدن الرئيسة في لبنان.
الإخلاء والتهديدات ذات الصلة
وردت حوالي 90% من البلاغات إلى مرصد السكن في أعقاب طلب المالك من المستأجر بالحسنى أو بالتهديد، إخلاء المأجور بعد عجزه عن تسديد الإيجار8، مع الإشارة إلى أنّ هذا العجز يعود في المقام الأول إلى خسارة المستأجر عمله أو فقدانه مورد رزقه جرّاء الأزمات المتتالية التي عصفت بالبلاد. واللافت أن نصف الحالات تقريبًا (78 حالة) قد أشارت إلى العجز عن تسديد بدل الإيجار حتى قبل صدور قرار التعبئة العامة الصحية الأول في 15 آذار، مما يدلّ على مدى تأثير الأزمة الاقتصادية التي سبقت التعبئة العامة على تدهور مستوى الدخل.
برز فارقٌ كبيرٌ في مدّة تعثّر المستأجرين الـ 145 عن تسديد الإيجار قبل مطالبة المالك للمستأجر بالإخلاء، حيث تراوحت بين نصف شهرٍ من التأخير وما يفوق العام. أما المعدّل الوسطي لفترة التعثّر قبل الإبلاغ، فبلغ 4 أشهرٍ بالنسبة للمستأجرين القاطنين في المسكن نفسه منذ أكثر من 5 سنوات، وشهرَين فقط بالنسبة للمستأجرين الـ 138، وهي المدة السائدة.9
بحسب الشكاوى التي وردتنا، لجأ بعض المالكين إلى ممارساتٍ تعسفيّةٍ واستخدام أدوات إخلاءٍ وترهيبٍ تتنافى مع أدنى الحقوق الإنسانية والمعاهدات الدولية التي وقّع عليها لبنان في هذا الصدد، وقد وصلت في بعض الأحيان إلى حدّ تهديد المستأجر باحتجازه داخل المنزل، أو ضربه وتعنيفه جسديًا، أو قطع المياه والكهرباء عنه والاستعانة بعناصر من الدرك لتهويله وتخويفه.
ترهيب \ تهديد | عدد | ممارسات تعسفية | عدد | قوة غير متوازنة | عدد |
---|---|---|---|---|---|
التهديد بإقفال البيت | 4 | قطع المياه والكهرباء | 3 | ابن المالك عسكري-جيش/دركي | 2 |
التهديد برمي ممتلكات المستأجر خارج البيت | ٤ | مضايقات يومية | ٢ | المالك محامي | ١ |
التهديد بالحجز على الممتلكات | ٣ | الحجز على الأوراق الشخصيّة | ١ | ممارسة سلطة الرجل على سيدة | ١ |
التهديد باللجوء إلى الدرك | ٣ | الحجز على الممتلكات | ١ | المالك سياسي | ١ |
ارسال رجال لإرهاب المستأجر/ة | ٢ | رمي الممتلكات خارج المنزل | ١ | المالك عسكري/ دركي | ١ |
التهديد بالحجز داخل المنزل | ٢ | ||||
التهديد بالضرب/ التعنيف الجسدي | ٢ | ||||
التهديد بإطلاق النار على المستأجر | ١ | ||||
التهديد قطع المياه والكهرباء | ١ | ||||
الحضور بالزي الرسمي للدرك | ١ | ||||
فرض اشغال سخرة مقابل الإيجار | ١ |
وقد سبقت هذه الممارسات في بعض الأحيان محاولاتٌ للتفاوض، إذ حاول 35 مستأجرًا التفاوض مع المالك قبل التواصل مع المرصد، طالبين تخفيض الإيجار أو تمديد مهلة تسديد المبالغ المستحقّة. وتلقى 19 منهم استجابةً من المالكين الذين مدّدوا لهم مهلة التسديد أو وافقوا على خفض بدل الإيجار. وفي حالةٍ أخرى، احتشد مستأجرو مبنًى بكامله، وجميعهم من العمال المهاجرين، داخل مدخل المبنى للاحتجاج على وضعهم، فتدخّل عناصر الدرك لتفريقهم جراء تدابير الوقاية من وباء كورونا. وفي حالةٍ ثانية، تفاوض مستأجرو الشقة ذاتها مع المالك الذي أبدى استعداده للنظر في مطلبهم. وفي حالتين إضافيتين سُجلتا في منطقة الجناح، توسّط بعض السكان (من جيرانٍ وأصحاب نفوذٍ) مع المالك للسماح بعودة المستأجرين إلى مسكنهم بعد إخلائهم منه. وفي حالةٍ أخرى، افترش مستأجرٌ الطريق خوفًا من مواجهة المالك، لكن عناصر الدرك طردوه من الشارع طالبين منه البقاء في المنزل.
بالطبع، تشكّل العلاقات الاجتماعية مع المحيط عاملًا مهمًا في مواجهة تهديدات الإخلاء. وقد كان لافتًا في بعض الأحيان إقناع الجيران لأصحاب المنازل بعدم تنفيذ تهديداتهم بطرد المستأجرين، أو تمكنّهم من إعادة المستأجرين إلى شققهم بعد محاولة إخلائهم منها. ولكن في حالاتٍ أخرى، تنعدم أيّ علاقة معرفةٍ بين المستأجرين والجيران. وقد تتعذّر في بعض الأحيان إمكانية التفاوض، حتى في ظلّ وجود علاقةٍ وطيدةٍ مع المحيط، بسبب ارتباط المالك بأجهزةٍ عسكريةٍ أو أمنيةٍ أو جهاتٍ حزبيةٍ محلية.
بالتالي، على الرغم من أهمية العلاقات الاجتماعية، لا يمكننا – في حالة العمالة المهاجرة في لبنان – غضّ الطرف عن المقاربة الحقوقية المتعلّقة بالإخلاء. فمن النواحي القانونية، لا يمتثل المالكون لأحكام قانون تمديد المهل التعاقديّة الذي يقضي بتمديد مهل تسديد بدلات الإيجار، مع العلم أنّ ممارسة أي نوعٍ من الضغط والترهيب على المستأجرين، والتي قد تصل أحيانًا إلى حدّ التعرّض للكرامة والتحقير والأذية، تندرج ضمن الممارسات المعاقَب عليها جزائيًا والتي قد تصل عقوبتها إلى السجن. بالإضافة إلى ذلك، فإن أيّ إخلاءٍ غير رضائي يستوجب أصولًا صدور قرارٍ قضائي، وهو أمرٌ لم يتوفّر في أيّ من الحالات المعروضة أعلاه.
خلاصة
على غرار نظام الكفالة الذي يتيح للكفيل قمع العمال الأجانب ويسمح للسلطات بالتهاون إزاء انتهاكات حقوق المرأة وعدم المساواة بينها وبين الرجل في المسؤوليات والواجبات، بدلًا من وضع المشاريع الإنمائية في سلّم الأولويات وتأمين الحضانات ودورٍ للعجزة في مختلف الأحياء، فإن غياب الضوابط في سوق السكن يحوّل المؤجر الذي يعاني من هشاشةٍ في كل جوانب معيشته من صحة وتعليم وضمان شيخوخة إلى شريكٍ للسلطات في انتهاك الحقوق السكنية وتدمير البيئة العمرانية.
في حالة العمال الأجانب والمهاجرين، تتجلى بوضوحٍ نتائج السياسات المرتكزة على السوق وغياب الضوابط في سوق الإيجارات ومعها حلول السكن الميسّر والملائم، مما يجعل الفئات الأكثر تهميشًا من النواحي الاجتماعية والقانونية عُرضةً لأبشع أنواع الاستغلال والتعنيف. كما أن لغياب الضوابط أثر على فئة المستأجرين بشكلٍ عام، بما فيهم اللبنانيين منهم: فإمكانية تحويل الشقق إلى غرفٍ لزيادة مردود تأجيرها يؤدّي إلى ارتفاع الإيجارات بشكلٍ عام.
لا بدّ من ضبط سوق الإيجارات عبر ربط القيمة التأجيرية بمستوى الأجور، وتوفير السكن الاجتماعي من قبل السلطات العامة بما يتماشى مع مبادئ العدالة الاجتماعية ويسمح بتطوير برامج سكنيةٍ توفّر مساكن لائقةً في مختلف أحياء المدينة بأسعارٍ متدنيّة. كما يجب حماية المستأجرين من أعباء زيادة كلفة الإيجار وضمان استمرارية سكنهم، إلى جانب حماية المستأجرين بلا عقود من الممارسات التي تهدّد سكنهم، وضمان عدم استغلال شروط الإقامة والكفالة لغير اللبنانيين كوسائل للترهيب والتهويل. علاوة على ذلك، يجب معالجة الأوضاع السكنية السيئة في الكثير من الشقق والمباني نتيجة الإهمال وعدم اتباع المعايير الهندسية، وبالتالي فرض ترميمها ودور البلديات المحوري في ذلك.10
وفي ظلّ الأزمات التي نعيشها، يتعيّن على السلطات العامة اتباع سياسة عدم الإخلاء ووضع برامج تدعم المالكين والمستأجرين من ذوي الدخل المنخفض وتؤمّن سكنًا بديلًا وملائمًا لكلّ حالة إخلاء.
يجدر بالدولة الشروع بتطبيق هذه الحلول فورًا، مع العلم بأنها تبقى منقوصةً ما لم تتم معالجة الهشاشة الاجتماعية الاقتصادية البنيوية التي تشوب الاقتصاد السياسي اللبناني. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا عبر أداء الدولة دورها عبر تحفيز اقتصادٍ منتجٍ يؤمّن فرص العمل اللائق ويحفظ حق العاملات والعمال بمختلف فئاتهم، وتوفير الخدمات الأساسية من طبابةٍ وتعليمٍ وسكن، ما يحدّ من مسوّغ الربحية الفردية. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي بالدولة وضع نظامٍ ضريبي عادلٍ يحدّ من المضاربات العقارية ويشمل الضرائب التصاعدية على الأراضي الموجودة في المناطق العمرانية، والضرائب على الأراضي غير المبنية أو غير المستخدمة، والضرائب على الأملاك المبنية الشاغرة.
- 1. وفقًا لمسح أجراه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العام 2008
- 2. يحوز 76 شخصًا من هؤلاء (52%)، على رقم خاصٍ لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين UNHCR إما كلاجئين أو كطالبي لجوء. وقد تم تحويل 67 حالة إلى المفوضية لمتابعتها. هذا ولم تتلقَّ جميع الحالات جوابًا، فيما تلقّت أخرى ردًا بعدم إمكانية المساعدة أو بوضع ملفّهم قيد الدرس. كما تابعت المفوضية بعض الحالات، وتلقى البعض من الطالبين مساعداتٍ ماليةً للإيجار. لا يتوفّر رقمٌ دقيقٌ للحالات التي تلقت المساعدة من UNHCR بسبب الضوابط المفروضة على مشاركة المعلومات من قبل المفوضيّة.
- 3. في الواقع، لم يتم إجراء دراساتٍ أو إنتاج خرائط حول أماكن إقامة العمال المهاجرين في المدينة، أقله ليس على نطاقٍ شامل.
- 4. مراجع ذات صلة: - استوديو أشغال عامة، راس بيروت: مرويات عن السكن في المدينة، 2018 - منى فواز وعبير الزعتري، Property Tax: No More Vacancy Exemptions، 2020
- 5. للمزيد عن هذا الموضوع، قراءة مقال "راس النبع في زمن الكورونا"
- 6. يعود تاريخ هذه الأرقام إلى 6 أشهرٍ مضت، ونتوقع أن تكون أكثر ارتفاعًا الآن.
- 7. AUB Urban Lab, Beirut: A City for Sale?, 2020
- 8. في 15 حالةٍ أخرى، تواصل المستأجرون مع المرصد بدافع خوفهم من أن تتم مطالبتهم بالإخلاء، 14 منهم كانوا متعثرين بتسديد بدلات الإيجار لم يُطلب منهم الإخلاء بعد، وواحد كان لا يزال يسدّد الإيجار، لكن فرض عليه التسديد بعملة الدولار أو بالليرة اللبنانية على أساس سعر الصرف في السوق السوداء.
- 9. تجدر الإشارة هنا الى أنه وفقًا لقانون الإيجار اللبناني الذي يخضع هؤلاء المستأجرون لأحكامه، فإنّ مدّة التعثر قبل أن يحق للمالك طلب الإخلاء رسميًّا هي 3 أشهر، الّا أنه بالنسبة لـ 100 من هذه الحالات، بلغت مدة التعثّر شهرين فقط أو أقل، مقابل 40 حالة بلغت فيها مدة التعثّر 3 أشهرٍ أو تخطّتها.
- 10. المادة 18 (قسم 7) من قانون البناء 646 \ 2004: "على المالكين أن يحافظوا على نظافة واجهات أبنيتهم وأجزائها الأخرى وعليهم عند الاقتضاء أن يقوموا بدهنها أو توريقها أو طرشها أو ترميمها، وإذا تمنعوا يحق للبلدية بعد إخطارهم أن تقوم بالعمل المذكور على نفقتهم."