انهيار المبنى السكني في الميناء يستدعي ثورة على التنظيم المدني
إنّ حادثة انهيار مبنى الفوّال في الميناء في طرابلس على رأس قاطنيه ومقتل عبد الرحمن كاخية (٢١ عامًا) وشقيقته راما (١٨ عامًا)، هو شهادةٌ وإثباتٌ إضافيّان لما نعرفه ونعيه جيدًا: أن السكان محدودي الدخل يعيشون على نحوٍ متزايدٍ في ظروفٍ هشةٍ ومليئةٍ بالمخاطر. لكن كي لا تمر هذه الحادثة من دون التعمّق في الأسباب الجذرية التي أدت إليها، يناقش هذا المقال أحد المداخل المتاحة للتحقيق فيما حصل، وهو التنظيم المدني.
تحديدًا، يتطرق المقال إلى التصميم التوجيهي لمدينة الميناء، الصادر في عام٢٠٠٦، والذي غيّر تصنيف المدينة القديمة من تصنيفٍ "سكني" إلى "تراثي قديم ذي استخدام سكني". ومن خلال تناول هذا التصميم، نروي أولًا كيف شابت التدخلات السياسية عملية تطوير التصميم نفسه، ونناقش ثانيًا التوجّه الذي اختاره المخطِط لجهة وضع قيودٍ صارمةٍ على عمليات البناء والترميم في المنطقة. في الخلاصة، نبيّن أنّ هذين السّببين جعلا من التصميم عائقًا مدمرًا عرقل محاولات تحسين نوعية الحياة والعمران في الحيّ.
يقع مبنى الفوّال في حيّ نص برطاشة القديم الذي بات يُعرف بـشارع
الأندلس في مدينة الميناء. وبعد تحرّك الشارع غضبًا نتيجة الكارثة
التي وقعت، ومن ثم استقالة المجلس البلدي، نُشرت بيانات الاستنكار
وكُتبت مقالات عن الحيّ، كما علِمنا بأنّ نقيب المهندسين في الشمال
المهندس بسام زيادة كلّف مهندسًا إنشائيًا بمهمة التحقيق في
الحادثة. وبناءً عليه، أثارت كافة الأطراف المعنية قضية الترميم
كمسألةٍ أساسيةٍ مرتبطةٍ بهذه الكارثة. وذكرت المفكرة القانونية
إذًا، لماذا لم يمنح رئيسُ بلدية الميناء آلَ كاخية ترخيصًا للترميم؟ وهل هناك بالفعل رؤيةٌ تقضي بتحويل الحيّ إلى منطقةٍ راقية، ما يفسّر التضييق على السكان لدفعهم إلى الإخلاء؟
التصميم التوجيهي لمدينة الميناء
صدر في العام ٢٠٠٦ تصميمٌ توجيهيٌ لمدينة الميناء (المرسوم ١٦٣٥٣) عمل عليه المهندس المعماري والمخطط المدني ديران هرمنديان بتكليفٍ من المديرية العامة للتنظيم المدني. بدأ هرمنديان الدراسة في العام ٢٠٠١ منطلقًا من رؤيةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ متكاملةٍ للمدينة، تبلورت في المخطط الذي اتجه بشكلٍ رئيسٍ إلى إعادة إحياء وسط المدينة التاريخي الذي يعاني من التدهور العمراني، ومن عدم استخدام حوالي ٤٠% من الوحدات السكنية فيه. واقترح هرمنديان إعادة تأهيل وسط المدينة والمدينة التاريخية من خلال فرض الضرائب على عمليات البناء في مناطق التمدّد الأخرى في المدينة.
وفي مقابلةٍ أجريناها معه في تشرين الأول
٢٠١٧
هكذا، اقتصر التصميم التوجيهي كالعادة على تصنيف الأراضي وشروط البناء فيها، ووافقت عليه البلدية والمديرية العامة للتنظيم المدني. لكن الاعتراض أتى من الوزير نجيب ميقاتي الذي كان وقتذاك وزيرًا للأشغال. يروي هرمنديان: "بعد مرور سبعة أشهرٍ على موافقة المديرية العامة للتنظيم المدني على المخطط، اتصل بي المدير العام فجأةً وأبلغني بأنّ الوزير يرغب بلقائنا. سألتُه، ماذا يريد؟ أجاب، ربما يريد رؤية المخطط. ذهبنا للقاء الوزير وجهّزنا أجهزة العرض، ثم وصل ميقاتي ومعه ١٥ شخصًا من تجار البناء ذوي الصيت السّيء في طرابلس، وقال: اليوم، لن نتكلم عن المخطط بل عن مشاكل هؤلاء الناس (أي تجار البناء، والمهندسين، وأصحاب الأراضي وشركاء الاستثمارات). كان كلهم من المفاتيح الانتخابية وبالتالي كان الوزير يريد إرضاءهم".
في النتيجة، تحوّل المخطط إلى معركةٍ بين البلدية والوزير
والمجلس الأعلى للتنظيم المدني، وصدر في نهاية المطاف بالتوافق بين
تلك الأطراف، متضمنًا تعديلًا جزئيًا في تصنيف أراضي الوزير ميقاتي
(المصنفة C على الخريطة)
كيف تعامل التصميم مع المدينة التاريخية
على الرغم من غياب الرؤية التنموية أو الخطة المتكاملة لتأهيل الحيّ التي حاول المخطط هرمنديان إرساءها، استمر المخطط في توّجهه لجهة تصنيف المدينة التاريخية كمنطقةً تراثيةً ذات شروط تفصيلية صارمة للبناء والترميم. صنّف التصميم الصادر المدينة التاريخية حيث يقع مبنى الفوّال على أنها منطقة "م١"، وفي تفاصيل هذا التصنيف، ينصّ البند الأول على ما يلي:
"ينشأ جهازٌ فنيٌ خاصٌ يشرف على تجديد وإحياء المنطقة وإعادة تأهيلها، على أن يشمل هذا الجهاز أخصائيين يمثلون كلًا من البلدية والتنظيم المدني ومديرية الآثار ومركز الدراسات العليا المتخصصة للترميم التابع للجامعة اللبنانية. وعلى أن تخضع (عملية التأهيل والترخيص) لموافقة شروط الترخيص من التنظيم المدني والبناء والهدم والترميم ووضع الأرمات والطرش والدهان الخارجي، وجميع أعمال الطرقات والممرات والبنى التحتية والإنارة والكهرباء".
أولًا، نستخلص من هذا البند أنّ أيّ ترخيصٍ لأيّ عملٍ يُقام في المنطقة "م١" يخضع لموافقة الجهاز المذكور. وبالفعل، أنشئ هذا الجهاز وأُطلق عليه لاحقًا اسم "لجنة الآثار"، ومهمته هي القبول بالمشروع التمهيدي عند تقديم طلبٍ لإضافة بناءٍ أو لتنفيذ أعمال ترميم، قبل تحويله إلى باقي الإدارات.
ثانيًا، ولدى قراءة ما تبقى من البنود المتعلقة بشروط البناء والترميم وأيٍّ من الأعمال المذكورة سابقًا، نلحظ عددًا من الإشكاليات التي ساهمت في تردّي أوضاع السكان والأحياء بدلًا من إعادة تأهيلها. نلخص فيما يلي بعضًا من هذه الشروط:
- يمنع نظام المنطقة تسوية مخالفات البناء أيًّا كان نوعها، ويفرض إزالة المخالفة في حال عدم امتثالها لأحكام النظام الحالي.
- يفرض النظام وضع دراسةٍ شاملةٍ للعقار عند التقدّم بطلب ترميمٍ أو تشييد بناءٍ جديد، على أن تُرفق بمسحٍ شاملٍ للمنشآت الموجودة في العقار، بالإضافة إلى مسحٍ للعقارات المحاذية له. وبناءً على نتائج هذه الدراسة، يحصل البناءُ المطلوب الترخيص له على موافقة كلٍ من المجلس الأعلى للتنظيم المدني ومديرية الآثار.
- يضع النظام شروطًا تفصيليةً صارمةً جدًا عند طلب تشييد بناءٍ جديد، منها على سبيل المثال لا الحصر: حظر استعمال الألومنيوم في النوافذ والأبواب واشتراط صنع جميع النوافذ من الخشب الخالصBois) Massif) على شكل درفتَين ووفقًا لأشكالٍ هندسيةٍ قديمة؛ فرض أن تكون جميع تمديدات التكييف والكهرباء مخفية؛ وغير ذلك من الشروط المماثلة التي تمتدّ على مدى أربع صفحات.
- يخضع ترخيص ترميم المباني التي تعود إلى ما قبل عام ١٩٤٠ لشروط البناء الجديد ذاتها المذكورة في النقطة السابقة، بالإضافة إلى توحيد شكل البناء، لاسيما إذا كان يتألف من طبقاتٍ أضيفت في حقبٍ زمنيةٍ مختلفة. وفي حال استبدال العناصر القديمة بأخرى جديدة، ينبغي استعمال مواد من النوع واللون والبنية ذاتها، بالإضافة إلى شروطٍ أخرى.
- بالنسبة إلى ترخيص المباني التي تعود إلى الفترة الزمنية بين عامَي ١٩٤٠-١٩٦٠، يعود القرار إلى مديرية الآثار بشأن إمكانية الترميم.
- بالنسبة إلى ترخيص المباني التي تعود إلى ما بعد عام ١٩٦٠، يفرض النظامُ إعادة تصميم واجهاتها كي تنسجم مع الأبنية الأخرى في المنطقة وفقًا لشروط البناء الجديد.
في الواقع، إنّ هذه التدابير والشروط الجمالية المذكورة أعلاه تتطلّب وقتًا ومالًا يتجاوز على الأرجح قدرات معظم السكان المعنيّين، لا سيّما في ظل غياب خطة تمويل لتقوم السلطات المعنية بالتأهيل. كما يعتمد مخطط المنطقة تعريفًا جامدًا لمعنى التراث، متجاهلًا طبقاتٍ أخرى من التاريخ ومتجاهلاً الاستخدام الاجتماعي الحالي لهذه الأحياء.
لكن الأهم، هو أنّ هذه التدابير الصارمة ترغم السكان المتقدّمين بطلب الترخيص على التعامل مع إضافاتٍ كانوا قد أجروها على البناء في سنوات سابقة، وهي بالتصميم الجديد مخالفةٍ للقانون، وبالتالي تصنّف ممارساتِ البناء التقليدية في وسط المدينة التاريخي كممارساتٍ غير قانونية. إنّ عمليات العمران في مثل هذه الأحياء التاريخية - والتي وُجدت قبل صدور قوانين البناء ومخططات الدولة - تخضع للمفاوَضة بشكلٍ يومي. فالمساحة وكافة استخداماتها هي بمثابة حوار دائم وعام، إذ لم تتطلّب تاريخيًا الاستحصال على أيّ موافقةٍ أو اعتماد أيّ تدابير رسمية محدّدة. نوعية الحياة هذه شكّلت شرطًا عُطّل إلى حدٍ كبيرٍ بفعل المخطط التوجيهي المذكور أعلاه، كما بفعل استحداث مهنة التخطيط والعمارة بشكلٍ عام.
في النتيجة، لا تساهم هذه الشروط التقنية في تأهيل المنطقة التاريخية، بل تبقي الشوارع متّسخة ومهملة نتيجة غياب البُنى التحتية، والمباني غير آمنة بسبب غياب الدعم الهندسي، والمجتمعات مغلقة بسبب غياب الدمج المديني. لكن على الرغم من تلك المشاكل، تُظهر الممارسات العمرانية الاجتماعية في هذه الأحياء علاقاتٍ بديلةً بين الناس والأماكن التي يسكنونها، وهي علاقاتٌ غالبًا ما تتجاهلها القوانين والتدابير التي يضعها السياسيّون ووكلاؤهم المهنيّون.
ثورة على التنظيم المدني
في ظل غياب أيّ خطةٍ تنمويةٍ اقتصاديةٍ متكاملةٍ للحيّ وسكانه تلحظُ دورَ الدولة في تحسين البُنى التحتية والخدمات والوضع الإنشائي للمباني وعلاقة الحيّ بمحيطه المديني الأوسع، تغدو شروط الترميم التي حدّدها التصميم التوجيهي بمثابة آليةٍ للتطوير العمراني القائم على إحلال الأغنياء مكان الفقراء، وسببًا في تعريض السكان الحاليين للخطر. فالتخطيط الذي يفتقر إلى رؤيةٍ تنمويةٍ يُعدّ أحد أخطر وجوه التنظيم المدني، لا سيّما حين لا يراعي الممارسات الاجتماعية في إنتاج الحيّز العمراني.