إخلاء أم يمنى السبعينية:
ضواحي بيروت وجهة لأضعف فئات المدينة
ام يمنى كانت بعمر الرابعة عشر عندما انتقلت من البقاع للعيش في بيروت. كانت قد تزوّجت من شاب برجاوي يعمل في إحدى شركات المدينة واقاما في بيت من بيوت راس النبع الصغيرة. كان ذلك سنة ١٩٥٤ أو ١٩٥٥، لم تعد تَذكر بالتحديد. في السنتين التاليتين ستلد أوّل ولد من ستّة ثمّ الثاني، وبعدها بسنة أو بسنتين، ستهز البلاد سلسلة من الزلازل. ستة اْلاف بيت تهدّمت في زلزال ١٩٥٦؛ وتدمرت قرىً بأكملها في الشوف الأعلى والاقليم، وتخلخل بيت ام يمنى في راس النبع. عام ١٩٥٧، فوضّبت الأسرة الصغيرة امتعتها وانتقلت. لم تكن تنوي حينها ام يمنى قضاء الخمس وخمسين سنة القادمة من عمرها في ذلك البيت الصغير ذي الغرف الثلاث أعلى تلّة زريق في الطّريق الجديدة. اليوم، ومن بيتها في برجا، تستعيد أم يمنى سيرة مسارها السكني هذا وتصف كيف اثّر اخلاؤها من بيتها في الطريق الجديدة عليها وكيف حاولت، كإمرأة عجوز، مجابهة الإخلاء هذا. بحسرة، تشرح معاناتها بالانتماء والتأقلم في ظلّ التغييرات المكانية والاجتماعية والاقتصادية التي عاشتها.
"هي بناية مش بناية"ً: سيرة ذاتية ومعنى البيت
اليوم تروي يمنى، البنت الوحيدة لأم يمنى، قصّة اخلائها وعائلتها من ذلك البيت. تروي كيف اقتادت الظروف والديها الى ترك البيت الأوّل وإستئجار بيت في بناية لإحدى العائلات البيروتيّة التي كانت من اوائل العائلات التي سكنت وبنت في منطقة الطريق الجديدة في الثلاثينات من القرن العشرين. اليوم لم تعد تلك البناية موجودة، فسنة 2015 قام ورثة المالكين، بالشراكة مع "المهندس حمّود" الذي له عدّة مشاريع في المنطقة، بهدمها وشيدوا مكانها مبنى سكنياً حديثاً من احد عشر طابقاً وبوابة حديد مقفلة، يملكها اليوم الورثة و ورثة الورثة ويشغلون بعض شققها. البيت الذي سكنته ام يمنى وعائلتها كان في الطابق الأرضي، والبناية لم تتعدَّ الثلاثة طوابق.
في الأصل لم تكن البناية سوى بيت عائلي بسيط. زادت
العائلة غرفاً حول البناء الأساسي كلّما تزوّج أحد
أبنائها، ثم ما لبثت ان أنشأت طوابق عليا
وبدأت بتأجير الغرف في الطابق الأرضي، ومن ثم في
الطوابق العلوية، ، متأثرة بنموّ الطريق
الجديدة وتزايد الطلب على المساكن فيها في
الأربعينات والخمسينات
البيت كان يصله طريق غير نافذ؛ زاروب ينتهي عند البناية والعقارات الثلاثة المجاورة لها. امام البيت سطيحة منها تَدخل الى البيت الذي ارتفع عن الطريق ثلاث درجات. ام محمود لم تكن بذات القدر من الحظّ. بيتها كان ملاصقاً لبيت ام يمنى في البناية ومدخله من الزاروب ذاته، ولكنه بني على مستوى الطريق ويغرق بالمياه كلّما أمطرت. الى جانب بيت ام محمود كان منزلا ام بلال وام صلاح، مدخلهما عن الطريق المؤدي الى نزلة دار الأيتام. تلك لم تكن تغرق بالمياه. في الوسط بين البيوت الأربعة، في قلب الجزء القديم من البناء، كان الفرن، وهو فرن تقليدي وجد منذ بني بيت العائلة. مع الوقت ادّت الحرارة الناتجة عنه الى تفتّت الباطون عن الجدران الداخليّة وتدهور وضع الاساسات حوله، حتّى انه ظهر حديدها في بعض الأماكن. من الخارج، كان نصف البناية فقط مورّقاً والنصف الآخر من جهة بيت ام يمنى كان ما زال حجر باطون مكشوف رغم التحسينات التي قامت بها العائلة. فبعد ان كبر اولاد ام يمنى، الذين ورثوا عقد الإيجار عن والدهم المتوفّى، كانوا كثيراً ما يقيمون ورش صيانة في البيت، من تركيب شبابيك المنيوم واستبدال بركة الماء بخزّان وغيرها من التصليحات الضروريّة، ولكن الحائط الخارجي لم يورّق ابداً. أغرت الفورة العمرانية، في فترة إعادة الإعمار بعد الحرب، ورثة العقار الذين لم يملكوا المال للترميم والصيانة. وعندما شعر اولاد ام يمنى ان ايامهم في البيت لن تطول ما عادوا يسخون على المشاريع الكبيرة.
بيت برجا: فرصة استثمار
تزوّج عدد من اولاد ام يمنى وسكن بعضهم في المنطقة.
لم يعرفوا برجا
الا على الهويّة. تزوج
احد الأبناء قريبة لهم من برجا وهي لم ترغب العيش
في بيروت، فما كان منه الّا أن اتخذ بيتاً
في برجا. كان يجاوره بيت ما زال "على العظم"
نزاع خمس سنوات: الإخلاء السكني ومجابهته
في الحرب الأهلية تهجّروا. كانت منظمّة التحرير قد
اتخذت الطريق الجديدة قاعدة عسكرية
ومعقلاً لها
أتت الحرب فجأة وامتدت لنحو خمسة عشر عاماً لم يتخلّوا فيها عن البيت. نزاعات الإخلاءات استمرت لما يقارب الخمس سنوات. جاء انذار بوجوب اخلاء البيوت - كل بيوت المستأجرين في الطابق الأرضي و الطابقين العلويين – بتبليغ من المحكمة ودون أن يعرض أي تعويض مالي على المستأجرين. لم يكن الإنذارمفاجئاً للسكان، فهم كانوا على علم ان المالكين ينوون بيع العقار بسبب حاجتهم إلى المال وتردّي وضع البناء وعدم القدرة على الترميم منذ فترة إعادة الإعمار والفورة العمرانية التي تلت الحرب. وكان بعض الورثة يسكنون في الطابقين العلويين من البناء ذاته، لم تكن تربطهم بالمستأجرين علاقات وثيقة، وكان المستأجرون في الفترة الأخيرة التي سبقت الإنذارات قد شعروا بأن الورثة "استفرسوا" في جهودهم لإتمام صفقة الإستثمار، حيث قاموا "بحصر الإرث" واوصلوا شفهيّاً للمستأجرين بأن العقار سيباع وأن عليهم التفتيش عن بدائل. وكّل الجيران محامٍية لتلاحق مطالبهم في المحكمة بتعويضات تسمح لهم بتأمين مساكن بديلة. طالت الإجراءات القضائية والمحاكمات حوالي الخمس سنوات، وانتهت بالعام٢٠١٢ بحيث دُفع للمستأجرين تعويضات مالية غير كبيرة.
بين تعويض الإخلاء والقروض: خيارات السكن في بيروت
لم يتوفّر لأسرة ام يمنى اي خيار للبقاء في بيروت. عرض اولاد ام يمنى على المستثمر أن يشتروا شقّة في البناء الجديد ولكنهم جوبهوا برفض نهائي غير مبرّر. لجأوا إلى بعض المكاتب العقارية للبحث عن شقّة في المنطقة نفسها ولكن كانت أسعار الشقق هنا قد ناهزت بعد حرب ال 2006 ال 250 الف دولار. فرأت العائلة انه عوضاً عن استلاف القروض لشراء شقة في بيروت، من الأنسب الإستثمار في تأهيل بيت برجا الذي يحتوي على 4 شقق و محلّات يمكن الإستفادة من تأجيرهم. في تلك الفترة مرضت ام يمنى وادخِلت المستشفى اكثر من مرّة، وفي نهاية الأمر، ما كان منها الّا ان استسلمت لخيار برجا.
أما جارات ام يمنى المسنّات فلم يكن لديهنّ ذات الخيارات. حين كانت خيارات ام يمنى وعائلتها معتمدة بشكل أساسي على قدرة الأبناء على الإستحصال على قروض كون بعضهم موظّفين، فإنّ تعويض الإخلاء كان هو السبيل الوحيد لبعض تلك الجارات وعائلاتهن لتأمين مسكن بديل، ولكن خارج المدينة في ضيعهن حيث الأسعار أرخص من أجل الإستفادة القصوى من التعويض الذي لم يتعدَّ العشرين ألف دولار، وأخريات انتقلن للسكن مع احد ابائهن او بناتهن.
"مشوار صبرا هو مشوار حياة لماما": ممارسة الحي
انتقلت يمنى مع والدتها واخوتها الى برجا، وبحكم عملها، كانت تتنقل يوميّا بسيارتها من برجا الى بيروت وبالعكس. كان مشوار الطريق منهكاً، ومع مسلسل التفجيرات الذي هزّ ضواحي بيروت في 2012 قررّت العودة الى بيروت، وكان خيارها غرفة "فواييه" في المنطقة نفسها من الطريق الجديدة.
تصف يمنى قصّة إخلائهم بالمعاناة. والدها قد توفّي قبل وقت طويل، ولكن الأحداث هذة هدّت صحّة والدتها، وتذكر أنّها أدخلتها المستشفى ثلاث مرّات في تلك الأيام. وهي تتأسّف على الحيّ الذي تصفه بأنه كان كالضيعة وليس كأحياء المدينة الحديثة "كان الكل يعرف الكل". تأخذ القلم وترسم الزاروب وتشرح احدى اقدم ذكرياتها من ايام ما قبل الحرب؛ كانت صبايا الحي عادةً تشطفن الزاروب مساءً وتفرشن الحصر على الأرض وتجتمع فيه الجيرة للتسلية مع جهاز تلفاز يُنقل الى الخارج. وكانت ام يمنى تخرج يوميّاً في الصباح، تلتقي وجاراتها في الزاروب وتتوجّهن سويّاً من نزلة جامع الإمام علي الى سوق صبرا لتأتين بأغراض الطبخ، فتلقين تحيّاتهن على ام عبد وام علي وام حسن وتتوقّفن "على الصبحية" عند صديقاتهن على السبيل وعلى الدّنا. "مشوار صبرا كان مشوار حياة لماما"، تقول يمنى، "اذا ما نزلت على صبرا ما بتكون ماما".
من بيروت الى برجا: تقلص العلاقات والمساحات الاجتماعية
استقطبت الطريق الجديدة في الخمسينات والستينات
اعداداً كبيرة من اهالي الجنوب وصيدا
والإقليم
اما بيت ام يمنى وعائلتها فيقع فوق
وسط بلدة
برجا على
الطريق المؤدّي الى مرج برجا، وهي
منطقة ما زالت غير مكتظّة كوسط البلدة. تعمل يمنى
واحد اخوتها في بيروت، وتملك العائلة
ثلاثة محال تجارية صغيرة في الطابق الأرضي من
البيت، من بينها محلّ سمانة
اليوم، تقضي ام يمنى معظم وقتها في محل السمانة هذا. فبعد الاستسلام لحتميّة اخلاء بيت الطريق الجديدة وعدم توفّر بديل في بيروت، قام الاخوة باستلاف القروض واستكمال بناء البيت الجديد والتّأسيس لحياة جديدة فيه. البيت في برجا بعيد عن المناطق المكتظّة وجارها الأقرب هو ابنها وعائلته. أسس أحد الإخوة محل السمانة واستلمت شؤونه أم يمنى، فتجدها إما تهتم باحفادها او بأمور المحل. تتونّس بالزبائن، تنشغل بقدوم البائعين وترتيب البضائع، ونزول وصعود الدرج يوميّاً من والى البيت في الطابق الأعلى يبقي على الأقل على حركتها نشيطة. لقد ناهزت الثمانين من العمر وما زالت تتعالج من التوعكات التي اصابتها اثناء فترة الإخلاء، ولكن عندما تخبرك ام يمنى وهي تحاسب احد زبائن المحل انها لم تتعلّم يوماً القراءة والكتابة ستنصدم. ولعلّ هذا كان من الأسباب الرئيسية لعدم قدرتها على التأقلم في محيطها الجديد. عاشت في الطريق الجديدة خمساً وخمسين سنة وألفتها، أما اقصى ما وصلت اليه في برجا فهو حدود بيت ابنها الملاصق لبيتها ولا تغامر بمشاوير الى السوق في وسط البلدة، خصوصا ان المحل يؤمن لها أغلب متطلّباتها اليومية، وبذلك لم تسنح لها فرصاً لبناء أي علاقات اجتماعية مع الجيران، فلا تعرف منهم احداً غير من يقصد دكّانها. فبعدما فقدت مشوار صبرا و حياتها الاجتماعية مع بيت طريق الجديدة، أصبح هذا المحل المتنفّس الوحيد لأم يمنى.
تزور يمنى، التي عادت لتسكن في"فواييه" في الحي ذاته من الطريق الجديدة، البيت في برجا كل نهاية اسبوع، كثيراً ما تعرض على والدتها أخذها مشوار الى بيروت "لتغيير الجوّ". مشوار السيارة اصبح يٌتعِب أم يمنى، فلا تقبل. لا تنزل إلى المدينة إلا لأداء واجب اجتماعي عند احد معارفهم في بيروت. في بعض أيام العطل تأخذ يمنى والدتها الى صيدا للتنزّه والغداء وشراء بعض الحاجيّات من السوق الشعبيّة. أمّا أمتن علاقاتها العائلية فهي مع أهلها في البقاع، تزورهم وأولادها بين الحين والاّخر ويزورونها. قسم كبير من أبناء الضيعة الصغيرة هاجر الى كندا منذ زمن، بينهم بعض اخوتها وأبنائهم، ولكن كلّما عادوا الى لبنان يزورونها.
"برجع": الانتماء والتأقلم في ظلّ التغييرات المكانية والاجتماعية
بعد تصدّع المنزل الأوّل في رأس النبع بزلزال ال 56، انتقلت أم يمنى وطفلاها الى بيت اقاربها في البقاع خوفاً من حالة المنزل فيما دأب زوجها على البحث عن بيت اّخر. عادوا في اّخر الصيف الى البيت الجديد، على الجهة الأخرى من طريق المزرعة، على اعلى تلّة في منطقة "الطريق الجديدة" بين الملعب البلدي ودار الأيتام الإسلامية (مستشفى المقاصد اليوم). لم تُدهَش ام يمنى بالبيت الجديد واعتبرته استثنائيّا بينما تبحث عن خيار اّخر، ولكن ذلك لن يحصل ابداً. سريعاً نمت علاقات الودّ والتآخي بين جارات الحيّ، وتعتزّ ام يمنى بدورها بمساعدة جاراتها بمشاكلهن حيث "كان لها كلمة" في الحيّ.
تحن ام يمنى للجيرة والإلفة في الطريق الجديدة. كانت اذا غابت جارة يومين عن النظر يستفقدونها ويقصدون زيارتها لللإطمئنان عنها. منذ ان تركت البيت في الطريق الجديدة توزّعت جارات ام يمنى؛ كلّ منهن عادت وعائلتها الى ضيعهن، فلم يكن في البناية بيروتيون الّا مالكوها. كانت احداهن من صيدا، واخرى من الجنوب، وغيرها من كترمايا. بعضهنّ توفيّن واثنتان سكنتا في برجا. لم تعد بينهما وبين ام يمنى ذات الإلفة، فالمسافات صارت ابعد ولا تقدر احداهن على القيادة، وتقتصر لقاءاتهن على المناسبات الفرحة او الحزينة التي غالبا ما تصل اخبارها متأخّرة أسبوعاً او أكثر؛ "كل واحدة صارت بميل". ولكن عندما تسأل ام يمنى اليوم اذاكانت لتعود الى بيروت لو تأمن لها منزل فيها، يأتيك الجواب من دون رفّة جفن، "برجع".